• فإن قيل: قد رواه ابن خثيم عن أبي الطفيل عن ابن عباس، وقال في الرمل: فكانت سنة، ورواه جماعة عن أبي الطفيل عن ابن عباس، أنه لما سئل عن الرمل، قال: صدقوا وكذبوا، ثم قال في الرمل: ليس بسنة.
ففي رواية: قد رمل رسول الله ﷺ بالبيت، وليس بسنة، قد رمل رسول الله ﷺ وأصحابه، والمشركون على جبل قعيقعان، فبلغه أنهم يتحدثون أن بهم هزلا، فأمر بهم أن يرملوا؛ ليريهم أن بهم قوة.
وقال مرة: صدقوا؛ قد رمل رسول الله ﷺ، وكذبوا؛ ليس بسنة، إن قريشا قالت زمن الحديبية: دعوا محمدا وأصحابه حتى يموتوا موت النغف، فلما صالحوه على أن يجيئوا من العام المقبل، فيقيموا بمكة ثلاثة أيام، فقدم رسول الله ﷺ، والمشركون من قبل فعيقعان، فقال رسول الله ﷺ لأصحابه:«ارملوا بالبيت ثلاثا»، وليس بسنة.
• فيقال: يمكن الجمع بينهما بأن مراد ابن عباس في رواية ابن خثيم: أنها صارت سنة بعدما أثبتت واستديم عليها النبي ﷺ، ومراده في رواية غيره: أن الرمل لم يكن من سنة الطواف بالبيت، وإنما أمر النبي ﷺ به أصحابه في عمرة القضية لأجل إرغام قريش؛ لما بلغه استهزاؤهم بأصحابه، وأنهم قد بلغ منهم الهزال والجهد مبلغا، وأنهم قد وهنتهم حمى يثرب، حينئذ أمر أصحابه بالرمل، ليريهم أن بهم قوة، وقال:«أروهم اليوم منكم ما يكرهون».
ويزيد هذا بيانا قول عمر؛ فيما رواه: هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: سمعت عمر بن الخطاب، يقول: فيم الرملان اليوم، والكشف عن المناكب، وقد أطأ الله الإسلام، ونفى الكفر وأهله؟ مع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله ﷺ. [أخرجه أبو داود (١٨٨٧)، وابن ماجه (٢٩٥٢)، وابن خزيمة (٤/ ٢١١)(٢٧٠٨)، وأحمد (١/٤٥)] [ويأتي تخريجه قريبا في الشواهد]، يعني بذلك: أنه صار سنة فلا يترك، وإن كان شرع في الأصل مراغمة لأهل الشرك، لا أنه من سنة الطواف، ولذلك فإن الرمل والاضطباع إنما يشرع فقط في طواف العمرة والقدوم، دون طواف الإفاضة والوداع والتطوع، والله أعلم.
وقد بوب عليه ابن خزيمة بقوله:«باب ذكر الدليل على أن السنة قد كان يسنها النبي ﷺ لعلة حادثة فتزول العلة وتبقى السنة قائمة إلى الأبد، إذ النبي ﷺ إنما رمل في الابتداء واضطبع ليري المشركين قوته وقوة أصحابه، فبقي الاضطباع والرمل سنتين إلى آخر الأبد».
وقال البيهقي في الدلائل (٥/ ٥٠٦): «قول ابن عباس في الرمل: وليس بسنة، يشبه أن يكون أراد: ليس بسنة يفسد الحج بتركه، أو يجب على من تركه شيء، والله أعلم.
وقد روينا عن عمر بن الخطاب ما يدل على أنه بقي هيئة في الطواف مع زوال سببه، وفي رمل النبي ﷺ في حجة الوداع بعد زوال السبب دلالة على بقائه مشروعا».