وليس لهما مخالف، فكان إجماعاً؛ ولأنه تحلل من نسكه بسبب عام، لم ينسب إلى التفريط، فوجب أن لا يلزمه القضاء، كالمتحلل بعد كمال الحج، ثم استطرد في الرد على بقية ما احتج به الأحناف.
وقال ابن حزم في المحلَّى (٥/ ٢١٩): «مسألة: وأما الإحصار فإن كل من عرض له ما يمنعه من إتمام حجه أو عمرته، قارناً كان أو متمتعاً، من عدو، أو مرض، أو كسر، أو خطأ طريق، أو خطأ في رؤية الهلال، أو سجن، أو أي شيء كان: فهو مُحْصَر.
فإن كان اشترط عند إحرامه كما قدمنا أن محله حيث حبسه الله ﷿ فليحل من إحرامه ولا شيء عليه، سواء شرع في عمل الحج أو العمرة، أو لم يشرع بعد، قريباً كان أو بعيداً، مضى له أكثر فرضهما أو أقله، كل ذلك سواء ولا هدي في ذلك ولا غيره، ولا قضاء عليه في شيء من ذلك إلا أن يكون لم يحج قط ولا اعتمر، فعليه أن يحج ويعتمر ولا بد.
فإن كان لم يشترط كما ذكرنا فإنه يحل أيضاً كما ذكرنا سواء سواء ولا فرق، وعليه هدي ولابد، كما قلنا في هدي المتعة سواء سواء إلا أنه لا يعوض من هذا الهدي صوم ولا غيره، فمن لم يجده فهو عليه دين حتى يجده، ولا قضاء عليه إلا إن كان لم يحج قط ولا اعتمر، فعليه أن يحج ويعتمر».
ثم قال رداً على الأحناف والمالكية والشافعية بعد سوق أدلة الباب: «أما التفريق بين المحصر بعدو وبغير عدو: ففاسد على ما قدمنا قبل وأما إسقاط الهدي عن المحصر بعدو أو غيره فخلاف للقرآن؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾، وأما إيجاب القضاء فخطأ؛ لأنه لم يأت بذلك نص.
فإن قيل: إن رسول الله ﷺ قد اعتمر بعد عام الحديبية؟ قلنا: نعم، ونحن لم نمنع من القضاء عاماً آخر لمن أحب، وإنما نمنع من إيجابه فرضاً؛ لأن الله تعالى لم يأمر بذلك، ولا رسوله ﷺ. وقد صح أن الله تعالى لم يوجب على المسلم إلا حجة واحدة وعمرة في الدهر، فلا يجوز إيجاب أخرى إلا بقرآن، أو سنة صحيحة توجب ذلك فيوقف عند ذلك.
وأما القول ببقاء المحصر بمرض على إحرامه حتى يطوف بالبيت، فقول لا برهان على صحته، ولا أوجبه قرآن ولا سنة، ولا إجماع، بل هو خلاف القرآن كما أوردنا، والصحابة قد اختلفوا في ذلك في العمرة خاصة، ولم يُرو عن أحد منهم أنه أفتى بذلك في الحج أصلاً [قلت: بل ثبت عن ابن عمر وابن عباس وابن الزبير في الحج بأسانيد صحاح].
فإن قيل: فإن الله تعالى يقول: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾؟ قلنا: نعم، ولم يقل تعالى: إن المحصر لا يحل إلا بالطواف، والذي قال: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: ٣٢]، ﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ