الحرم، فأولى الأفعال أن يقتدى به فعل رسول الله ﷺ، إذ لم يأت بحظره خبر، ولم تقم بالمنع منه حجة، فإذ كان ذلك كذلك، وكان أهل العلم مختلفين فيما اخترنا من القول في ذلك؛ فمن متأول معنى الآية تأويلنا، ومن مخالف ذلك، ثم كان ثابتاً بما قلنا عن رسول الله ﷺ النقل كان الذي نقل عنه أولى الأمور بتأويل الآية، إذ كانت هذه الآية لا يتدافع أهل العلم أنها يومئذ نزلت، وفي حكم صد المشركين إياه عن البيت أوحيت».
وقال ابن المنذر في الإشراف (٣/ ٣٨٣): قال الله ﵎: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي﴾ الآية. وثبت أن نبي الله ﷺ خرج زمن الحديبية فأمر أصحابه حين أحصروا أن ينحروا ويحلقوا.
واختلفوا في المحصر بغير عذر، فقال ابن عباس: لا حصر إلا حصر العدو. وقال ابن عمر: من حبس دون البيت بالمرض، فإنه لا يحل حتى يطوف بالبيت وبالصفا والمروة، وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.
وقالت طائفة: الإحصار من كل حابس حبس الحاج من عذر ومرض وغير ذلك، هذا قول النخعي، وعطاء، والثوري، وأصحاب الرأي.
وروينا عن ابن مسعود: معنى هذا القول، وبه قال أبو ثور».
ثم قال:«باب وقوف المحصر عن الإحلال ما دام راجياً لتخلية سبيله: في بعض الأخبار عن كعب بن عجرة: أنهم كانوا بالحديبية، ثم تبين لهم أنهم يحلون بها وهم على طمع من أن يدخلوا مكة. قال أبو بكر: وهذا يدل على أن من كان على رجاء من الوصول إلى البيت أن عليه أن يقيم حتى ييئس من الوصول فيحل، وقال من أحفظ عنه من أهل العلم أن من أيس أن لا يصل إلى البيت فجاز له أن يحل فلم يفعل حتى خلي سبيله، أن عليه أن يمضي إلى البيت ليتم مناسكه. وقال مالك، والشافعي وأبو ثور: إذا كان معه هدي نحر وحلق أو قصر ويرجع، ولا قضاء عليه؛ إلا أن يكون ضرورة. وقد روينا عن مجاهد، والشعبي، وعكرمة أنهم قالوا: يحج من قابل. وقال النخعي: عليه حجة وعمرة، وبه قال أصحاب الرأي».
ثم قال: «باب نهي المحصر بالعدو عن الإحلال إذا كان ساق هدياً وإيجاب الفدية عليه إن حلق رأسه قبل أن يبلغ الهدي محله: قال الله ﵎: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ الآية، وهذا ينصرف على وجهين: أحدهما: أن بلوغه النحر أو الذبح، وإن كان ذلك في الحل، هكذا يفعل المحصر، فنحر هديه حيث أحصر اقتداء بما فعل النبي ﷺ زمن الحديبية، قال الله تعالى ﴿وَالْهَدْيُ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ الآية، قيل: محبوساً.
هذا إذا كان محصراً ممنوعاً من الوصول إلى البيت؛ فأما قوله: ﴿هَدْيَاً بَالِغَ الْكَعْبَةِ﴾ الآية، وقوله: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ الآية، فالمخاطب به الآمن الذي يجد السبيل إلى الوصول إلى البيت - والله أعلم، وليس للمحصر يقدم أن يفعل شيئاً مما يحرم على المحرمين حتى ينحر هديه، فإن فعل من ذلك شيئاً مما فيه الفدية فعليه الفدية،