وقال في شرح المعاني (٤/ ١٨٩): «فذهب قوم إلى إباحة أكل لحم الضبع [قال العيني في نخب الأفكار: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح ومالكاً والشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم أباحوا أكل لحم الضبع، وهو مذهب الظاهرية أيضاً]، واحتجوا في ذلك بحديث ابن أبي عمار [عن جابر ﵁]، أن رسول الله ﷺ قال: «هي من الصيد». وبحديث إبراهيم الصائغ، عن عطاء، عن جابر ﵁، عن النبي ﷺ بمثل ذلك، [وزاد:]«ويؤكل»، وقد ذكرنا ذلك بإسناده في كتب مناسك الحج.
وخالفهم في ذلك آخرون [قال العيني: أراد بهم: الحسن البصري وسعيد بن المسيب والأوزاعي والثوري وعبد الله بن المبارك وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمداً]، فقالوا: لا يؤكل. وكان من الحجة لهم في ذلك أن حديث جابر هذا قد اختلف في لفظه، فرواه كل أحد من جرير وإبراهيم الصائغ كما ذكرناه عنه. ورواه ابن جريج، على خلاف ذلك، فذكر عن ابن أبي عمار ﵁ أنه سأل جابراً ﵁ عن الضبع، فقال: أصيد هي؟ قال: نعم، قال: وسمعت ذلك من النبي ﷺ؟ فقال: نعم. فأخبر عن النبي ﷺ أنها صيد، وليس كل الصيد يؤكل. فاحتمل أن تكون تلك الزيادة - على ذلك المذكورة في حديث ابن جريج - من قول جابر ﵁؛ لأنه سمع النبي ﷺ سماها صيداً. واحتمل أن يكون [عن] النبي ﷺ، فلما احتمل ذلك، ووجدنا السنة قد جاءت عن رسول الله ﷺ أنه نهى عن كل ذي ناب من السباع، والضبع ذات ناب، لم يخرج من ذلك شيئاً، قد علمنا أنه دخل فيه شيء لم يعلم يقيناً أنه أخرجه منه» [انظر: نخب الأفكار للعيني (١٣/٤٣)].
قلت: هكذا موَّه وشبه الطحاوي وأصحابه من الأحناف نصرة لإمامهم بهذه التمويهات، وما تُردُّ الأحاديث الصحاح بمثل هذا، فأما قول يحيى القطان فقد سبق بيانه، وأما اختلاف جرير بن حازم وابن جريج، فليس هو باختلاف قادح في الرواية، ومثل هذا يقع كثيراً في الأحاديث الصحيحة، مما يحتمل ويمكن تأويله، وأما جعل بعضه مرفوعاً وبعضه موقوفاً فهو تحكم بالهوى غير مقبول من قائله، وهم إذا وجدوا الحديث موقوفاً ينصر مذهبهم قالوا: مثله لا يقال من قبل الرأي والاجتهاد، فصيَّروه مرفوعاً لكي يحتجوا به لرأيهم، وإذا كان ظاهره الرفع جهدوا في جعله موقوفاً؛ لأجل رده وعدم الاحتجاج به، وقد جهد الطحاوي باستعمال اختلاف جرير وابن جريج، وجعله أداة لرد الزيادة التي أتت في حديث ابن جريج وإسماعيل بن أمية، واستعمال التقديم والتأخير في السؤال لتقرير وقف الزيادة، وهل بمثل هذا تردُّ الأحاديث؟ فنأخذ منها ما جاء على هوانا، ونرد منها ما لا يعجبنا؟ فأين الإذعان والخضوع والاستسلام الله ورسوله؛ إذا كانت عقولنا وأقوال الأئمة المتبوعين هي الحكم في القبول والرد؟ ومن العجائب التي تنقض قول الطحاوي الواهي، وتحكمه الذي لا معنى له: أنه قد جاء في رواية جمع من الثقات عن ابن جريج: «قلت لجابر: الضبع أصيد هي؟ قال: نعم، قال: قلت: آكلها؟ قال: نعم، قال: قلت: أقاله رسول الله ﷺ؟ قال: نعم». وحسب تنظير الطحاوي: فيكون الأكل مرفوعاً إلى النبي ﷺ.