وأما الصوم والإطعام: فاختلفوا فيه، فجمهور فقهاء المسلمين على أن الصوم ثلاثة أيام، وهو محفوظ صحيح في حديث كعب بن عجرة، وجاء عن الحسن، وعكرمة، ونافع، أنهم قالوا: الصوم في فدية الأذى عشرة أيام، والإطعام عشرة مساكين، ولم يقل بهذا أحد من فقهاء الأمصار ولا أئمة الحديث».
ثم قال:«واختلف الفقهاء في الإطعام في فدية الأذى، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم: الإطعام في ذلك مدان مدان، بمد النبي ﷺ، وهو قول أبي ثور وداود، وروي عن الثوري أنه قال: في الفدية من البر نصف صاع ومن التمر والشعير والزبيب صاع، وروي عن أبي حنيفة أيضاً مثله، جعل نصف صاع بر عدل صاع تمر، وهذا على أصله في ذلك، وقال أحمد بن حنبل مرة كما قال مالك والشافعي، ومرة قال: إن أطعم براً فمد لكل مسكين، وإن أطعم تمراً فنصف صاع».
ثم قال:«قال الله ﷿: ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكِ﴾، قال ابن عباس: المرض أن يكون برأسه قروح، والأذى القمل. وقال عطاء: المرض الصداع والقمل وغيره، وحديث كعب بن عجرة أوضح شيء في هذا وأصحه، وأولى ما عول عليه في هذا الباب وهو الأصل، ثم روى عن أحمد بن صالح المصري قوله: «حديث كعب بن عجرة في الفدية سنة معمول بها، لم يروها أحد من الصحابة غيره، ولا رواها عن كعب بن عجرة إلا رجلان: عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن معقل، وهذه سنة أخذها أهل المدينة وغيرهم عن أهل الكوفة»، ثم قال: قال أحمد: قال ابن شهاب: سألت عنها علماءنا كلهم حتى سعيد بن المسيب فلم يثبتوا كم عدد المساكين.
وأجمعوا أن الفدية واجبة على من حلق رأسه من عذر وضرورة، وأنه مخير فيما نص الله ورسوله عليه، مما ذكرنا على حسب ما تقدم ذكره، واختلفوا فيمن حلق رأسه من غير ضرورة عامداً، أو تطيب لغير ضرورة عامداً، أو لبس لغير عذر عامداً، فقال مالك: بئس ما فعل وعليه الفدية، وهو مخير فيها، إن شاء صام ثلاثة أيام، وإن شاء ذبح شاة، وإن شاء أطعم ستة مساكين مدين مدين من قوته، أي ذلك شاء فعل، وسواء عنده العمد في ذلك والخطأ، لضرورة وغير ضرورة، وهو مخير في ذلك عنده. وقال الشافعي، وأبو حنيفة، وأصحابهما، وأبو ثور: ليس بمخير إلا في الضرورة؛ لأن الله يقول: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَّأْسِهِ﴾، فأما إذا حلق عامداً أو تطيب عامداً لغير عذر فليس بمخير وعليه دم لا غير.
واختلفوا فيمن حلق أو لبس أو تطيب ناسياً، فقال مالك ﵀: العامد والناسي في ذلك سواء في وجوب الفدية. وهو قول أبي حنيفة، والثوري، والليث، وللشافعي في هذه المسألة قولان: أحدهما: لا فدية عليه، والآخر: عليه الفدية. وقال داود وإسحاق: لا فدية عليه في شيء من ذلك إن صنعه ناسياً.