الثاني: أن حديث ابن عباس كان في عمرة القضية قبل فتح مكة وقبل فرض الحج، كما تقدم، ولم تكن أحكام الحج قد مهدت ولا محظورات الإحرام قد بينت، وحديث عثمان إنما قاله ﷺ بعد ذلك؛ لأن النهي عن اللباس والطيب إنما بين في حجة الوداع، فكيف النهي عن عقد النكاح؟ إذ حاجة المحرمين إلى بيان أحكام اللباس أشد من حاجتهم إلى بيان حكم النكاح، والغالب أن البيان إنما يقع وقت الحاجة، فهذه القرائن وغيرها تدل من كان بصيراً بالسنن كيف كانت تسن، وشرائع الإيمان كيف كانت تنزل؛ أن النهي عن النكاح متأخر [قلت: حديث يعلى بن أمية في قصة الأعرابي الذي جاء النبي ﷺ وعليه جبة صوف، متضمخ بطيب؛ إنما كان ذلك في عمرة الجعرانة، وفيه:«أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك»، وهو حديث متفق على صحته، خرجته برقم (١٨١٩/ ١٨٢٢)، في المجلد السابع والعشرين، ولاشك أن معظم أحكام المحظورات كانت في حجة الوداع، لكن تقرير أصل المسألة في تحريم الطيب واللباس كان متقدماً على ذلك، ولا يمنع من صحة ما قرره ابن تيمية على وجه أغلبي].
الثالث: أن تزوجه فعل منه، والفعل يجوز أن يكون خاصاً به، وحديث عثمان نهي لأمته، والمرجع إلى قوله أولى من فعله، ومن رد نص قوله وعارضه بفعله فقد أخطأ.
الرابع: أن حديث عثمان حاظر، وحديث ابن عباس مبيح، والأخذ بالحاظر أحوط من الأخذ بالمبيح.
الخامس: أن أكابر الصحابة قد عملوا بموجب حديث عثمان، وإذا اختلفت الآثار عن رسول الله ﷺ نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون، ولم يخالفهم أحد من الصحابة فيما بلغنا إلا ابن عباس، وقد علم مستند فتواه، وعُلم أن من حرم نكاح المحرم من الصحابة يجب القطع بأنه إنما فعل ذلك عن علم عنده خفي على من لم يحرمه، فإن إثبات مثل هذه الشريعة لا مطمع في دركه بتأويل أو قياس، وأصحاب رسول الله ﷺ أعلم بالله وأخشى له من أن يقولوا على الله ما لا يعلمون بخلاف من أباحه، فإنه قد يكون مستنده الاكتفاء بالبراءة الأصلية، وإن كان قد ظهر له في هذه المسألة مستند آخر مضطرب.
السادس: أن أهل المدينة متفقون على هذا عملاً ورثوه من زمن الخلفاء الراشدين إلى زمن أحمد ونظرائه، وإذا اعتضد أحد الخبرين بعمل أهل المدينة كان أولى من غيره في أصح الوجهين، وهو المنصوص عن أحمد في مواضع، وقد تقدم أنه اعتضد في هذه المسألة بعمل أهل المدينة، لا سيما إذا كانوا قد رووا هم الحديث، فإن نقلهم أصح من نقل غيرهم من الأمصار، وهم أعلم بالسنة من سائر أهل الأمصار، وكان عندهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين أمرنا باتباعهم بإحسان ما لم يكن عند غيرهم، وإنما كان الناس تبعاً لهم في الرأي والرواية إلى انصرام خلافة عثمان وبعد ذلك، فإن لم يكونوا أعلم من غيرهم، فلم يكونوا بدون من سواهم، ونحن وإن لم نطلق القول