وقال أبو بكر في كتاب الشافي: باب القول في تضعيف حديث ابن عباس: أنه احتجم صائما محرما. حدثنا الخلال: ثنا أبو داود: ثنا أحمد: ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: لم يسمع الحكم حديث مقسم في الحجامة في الصيام. قال يحيى: والحجامة للصائم ليس بصحيح.
وقد أجيب عن حديث ابن عباس على تقدير صحته، وانتفاء تعليله، بوجوه ذكرتها في غير هذا الموضع.
وقال الحاكم - بعد أن روى حديث ابن عباس -: فاسمع الآن كلام إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة على هذا الحديث، لتستدل به على أرشد الصواب: سمعت أبا بكر محمد بن جعفر المزكي، يقول: سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، يقول: قد ثبتت الأخبار عن النبي ﷺ أنه قال: «أفطر الحاجم والمحجوم»، فقال بعض من خالفنا في هذه المسألة: إن الحجامة لا تفطر الصائم، واحتج بأن النبي ﷺ احتجم وهو صائم محرم. وهذا الخبر غير دال على أن الحجامة لا تفطر الصائم، لأن النبي ﷺ إنما احتجم وهو صائم محرم في سفر لا في حضر، لأنه لم يكن قط محرما مقيما ببلده، وإنما كان محرما وهو مسافر، وللمسافر - إن كان ناويا للصوم وقد مضى عليه بعض النهار وهو صائم - الأكل والشرب، وإن كان الأكل والشرب يفطرانه، لا كما توهم بعض العلماء أن المسافر إذا دخل في الصوم لم يكن له أن يفطر إلى أن يتم صومه ذلك اليوم الذي دخل فيه، فإذا كان له أن يأكل ويشرب وقد دخل في الصوم ونواه ومضى بعض النهار وهو صائم؛ جاز له أن يحتجم وهو مسافر في بعض نهار الصوم «وإن كانت الحجامة تفطره».
وقال ابن القيم في تهذيب السنن (٢/٤١ - ط عطاءات العلم): «وأجاب المرخصون عن أحاديث الفطر بأجوبة»: أحدها: القدح فيها وتعليلها الثاني: دعوى النسخ فيها. الثالث: أن الفطر فيها لم يكن لأجل الحجامة، بل لأجل الغيبة، وذكر الحاجم والمحجوم للتعريف لا للتعليل. الرابع: تأويلها على معنى أنه قد تعرض لأن يفطر، لما يلحقه من الضعف، ف «أفطر» بمعنى يفطر. الخامس: أنه على حقيقته، وأنهما أفطرا حقيقة، ومرور النبي ﷺ بهما، كان مساء في وقت الفطر، فأخبر ﷺ أنهما قد أفطرا، ودخلا في وقت الفطر، يعني فليصنعا ما أحبا. السادس: أن هذا تغليظ ودعاء عليهما، لا أنه أخبر عن حكم شرعي بفطرهما. السابع: أن إفطارهما بمعنى إبطال ثواب صومهما، كما جاء:«خمس يفطرن الصائم: الكذب، والغيبة، والنميمة، والنظرة السوء، واليمين الكاذبة»، وكما جاء:«الحدث حدثان: حدث الفرج، وحدث اللسان، وهو أشدهما». الثامن: أنه لو قدر تعارض الأخبار جملة لكان الأخذ بأحاديث الرخصة أولى لتأيدها بالقياس، وشواهد أصول الشريعة لها، إذ الفطر إنما قياسه أن يكون بما يدخل الجوف لا بالخارج منه، كالفصاد والتشريط ونحوه.