والثاني: أن القطع ليس بواجب، وهو أصح الروايتين عن أحمد، ويروى عن علي بن أبي طالب، وهو قول أصحاب ابن عباس، وعطاء وعكرمة. وهذه الرواية أصح، لما في الصحيحين عن ابن عباس، قال: سمعت النبي ﷺ يخطب بعرفات: «من لم يجد إزاراً فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين». فأطلق الإذن في لبس الخفين ولم يشترط القطع، وهذا كان بعرفات، والحاضرون معه إذ ذاك أكثرهم لم يشهدوا خطبته بالمدينة، فإنه كان معه من أهل مكة واليمن والبوادي من لا يحصيهم إلا الله تعالى، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع. وفي صحيح مسلم عن جابر، قال: قال رسول الله ﷺ: «من لم يجد نعلين فليلبس خفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل»، فهذا كلام مبتدأ من النبي ﷺ، بين فيه في عرفات - في أعظم جمع كان له - أن من لم يجد الإزار فليلبس السراويل، ومن لم يجد النعلين فليلبس الخفين، ولم يأمر بقطع ولا فتق، وأكثر الحاضرين بعرفات لم يسمعوا خطبته بالمدينة، ولا سمعوه يأمر بقطع الخفين، وتأخير البيان عن وقته ممتنع؛ فدل هذا على أن هذا الجواز لم يكن شرع بالمدينة، وأن الذي شرع بالمدينة هو الخف المقطوع، ثم شرع بعرفات الخف من غير قطع.
فإن قيل: فحديث ابن عمر مقيد، وحديث ابن عباس مطلق، والحكم والسبب واحد، وفي مثل هذا يتعين حمل المطلق على المقيد، وقد أمر في حديث ابن عمر بالقطع.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن قوله في حديث ابن عمر: «وليقطعهما» قد قيل: إنه مدرج من كلام نافع. قال صاحب المغني [انظر: المغني لابن قدامة (٥/ ١٢١)]: كذلك روي في أمالي أبي القاسم بن بشران بإسناد صحيح: أن نافعاً قال بعد روايته للحديث: وليقطع الخفين أسفل من الكعبين. والإدراج فيه محتمل، لأن الجملة الثانية يستقل الكلام الأول بدونها، فالإدراج فيه ممكن، فإذا جاء مصرحاً به أن نافعاً قاله زال الإشكال. [قلت: هذا الوجه باطل، سبق بيانه في طرق حديث نافع، حيث وهم فيه جعفر بن برقان على نافع، وقد وهمه فيه: الدارقطني، وأبو الوليد الباجي، وهو كما قالا، وتقدم بيان ذلك تحت الحديث رقم (١٨٢٧)، الطريق رقم (١٩)].
ويدل على صحة هذا: أن ابن عمر كان يفتي بقطعهما للنساء، فأخبرته صفية بنت أبي عبيد عن عائشة: أن رسول الله ﷺ رخص للمحرم أن يلبس الخفين ولا يقطعهما، قالت صفية: فلما أخبرته بهذا رجع. [صوابه: أن ابن عمر كان يفتي بقطع الخفين للنساء؛ حتى حدثته صفية بنت أبي عبيد عن عائشة؛ أن رسول الله ﷺ قد رخص للنساء في الخفين.
هكذا وقع في حديث ابن إسحاق عن الزهري، وخالفه أصحاب الزهري فأوقفوه على عائشة، وهو الصواب]
الجواب الثاني: أن الأمر بالقطع كان بالمدينة ورسول الله ﷺ يخطب على المنبر،