وغيره عقلها وذهل عنها أو نسيها؛ فإن هذين حديثان تكلم النبي ﷺ بهما في وقتين
ومكانين:
فحديث ابن عمر تكلم به النبي ﷺ وهو بالمدينة قبل أن يحرم، على منبره لما سأله السائل عما يلبس المحرم من الثياب. وقد تقدم أن في بعض طرقه: سمعته يقول على هذا المنبر، وهو ينهى الناس - إذا أحرموا - عما يكره لهم، وذلك إشارة إلى منبره بالمدينة. [تقدم من حديث يزيد بن هارون، عن ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، أخرجه أحمد (٢/٣٢/٤٨٦٨)، وهو حديث جيد] [وتابعه: جرير بن حازم حدثنا نافع، عن ابن عمر، قال: قال رجل ورسول الله ﷺ على المنبر: ما يلبس المحرم؟ أخرجه أبو يعلى (١٠/ ١٨٥/ ٥٨١٢)، وهو حديث صحيح].
وفي رواية: أن رجلاً نادى رسول الله ﷺ وهو في المسجد. رواه الدارقطني.
وتقدم في لفظ آخر صحيح: أن رجلاً سأله ما نلبس من الثياب إذا أحرمنا؟ [ثبت ذلك عن نافع من وجوه متعددة رواه عنه: عبيد الله بن عمر، وأيوب، وعبد الله بن عون، وعمر بن نافع، وجويرية بن أسماء، ويزيد بن هارون عن ابن إسحاق].
فعلم أنهم سألوه قبل أن يحرموا، وحديث ابن عباس كان وهو محرم بعرفات كما تقدم، وقد بين فيه أنه لم يذكر القطع.
قال الدارقطني: سمعت أبا بكر النيسابوري، يقول: في حديث ابن جريج، وليث بن سعد، وجويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر، قال: نادى رجل رسول الله ﷺ في المسجد: ما يترك المحرم من الثياب؟ وهذا يدل على أنه قبل الإحرام بالمدينة. وحديث شعبة، وسعيد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس؛ أنه سمع النبي ﷺ يخطب بعرفات، هذا بعد حديث ابن عمر.
فمن زعم أن هذه الزيادة حفظها ابن عمر دون غيره فقد أخطأ.
قال المروذي: احتججت على أبي عبد الله بقول ابن عمر عن النبي ﷺ، وقلت: هو
زيادة في الخبر، فقال: هذا حديث وذاك حديث.
ويبين ذلك: أنهما حديثان متغايرا اللفظ والمعنى، في هذا ما ليس في هذا، وفي هذا ما ليس في هذا.
وإذا كان كذلك؛ فحديث ابن عباس هو الحديث المتأخر، فإما أن يبنى على حديث ابن عمر ويقيد به، أو يكون ناسخاً له، ويكون النبي ﷺ أمرهم أولاً بقطعها، ثم رخص لهم في لبسها مطلقاً من غير قطع، وهذا هو الذي يجب حمل الحديثين عليه لوجوه:
أحدها: أن النبي ﷺ أمرهم بلبس الخفاف والسراويلات، وموجب هذا الكلام هو لبس الخف المعروف، ولا يجوز أن يكون ترك ذكر القطع لأنه قد تقدم منه أولاً بالمدينة؛ لأن الذين سمعوا ذلك منه بالمدينة كانوا بعض الذين اجتمعوا بعرفات، وأكثر أولئك الذين جاءوا بعرفات من النواحي ليسوا من فقهاء الصحابة، بل قوم حديثو عهد بالإسلام، وكثير