فقد ثبت عن عبد الله بن سخبرة، أنه قال: غدوت مع عبد الله بن مسعود من منى إلى عرفة، وكان عبد الله رجلاً آدم، له ضفيران، عليه مسحة أهل البادية، وكان يلبي، فاجتمع عليه غوغاء من غوغاء الناس [فقالوا]: يا أعرابي، إن هذا ليس بيوم تلبية، إنما هو تكبير، قال: فعند ذلك التفت إليَّ، وقال: أجهلَ الناسُ أم نسوا؟ والذي بعث محمداً [ﷺ] بالحق، لقد خرجت مع رسول الله ﷺ من منى إلى عرفة، فما ترك التلبية حتى رمى جمرة العقبة، إلا أن يخلطها بتهليل أو تكبير.
فها هو ابن مسعود يحتج على صحة فعله بما سمعه ورآه من النبي ﷺ، ولو كان المنكر عليه صحابياً لراده في ذلك، لكنه اندس في الناس؛ بما يؤكد أنه كان من غوغاء الناس، ولم يكن من علمائهم:
فقد ثبت عن طارق بن شهاب، أنه قال: أفاض عبد الله من عرفات، وهو يلبي، فسمعه رجل، فقال: من هذا الملبي وليس بحين التلبية؟ فقيل له: هذا ابن أم عبد، فاندس بين الناس وذهب، فذكر ذلك لعبد الله، فجعل يلبي: لبيك عدد التراب.
وقد وقت ابن مسعود سماعه التلبية من رسول الله ﷺ في موضع الاختلاف، فأخبر بأنه خرج مع رسول الله ﷺ من منى إلى عرفة، فما ترك التلبية حتى رمى جمرة العقبة، إلا أن يخلطها بتهليل أو تكبير.
وثبت عنه [كما في صحيح مسلم]: أن عبد الله لبى حين أفاض من جمع، فقيل: أعرابي هذا؟ فقال عبد الله: أنسي الناس أم ضلوا؟! سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة يقول في هذا المكان: «لبيك اللهم لبيك». يعني: أنه سمع النبي ﷺ يلبي حين أفاض من مزدلفة.
فكيف يقال بعد كل هذا جرى العمل على قطع التلبية عند الزوال من يوم عرفة؟!
وقال ابن حزم في المحلى (٥/ ١٣٣): «وأما قولنا: لا يقطع التلبية إلا مع آخر حصاة من جمرة العقبة؛ فإن مالكاً قال: يقطع التلبية إذا نهض إلى عرفة، وذكروا في ذلك رواية عن عائشة أم المؤمنين، وابن عمر، وعن علي؛ واحتجوا بأن قالوا: التلبية استجابة فإذا وصل فلا معنى للتلبية.
قال أبو محمد: أما الرواية عن علي فلا تصح؛ لأنها منقطعة إليه؛ والصحيح عنه خلاف ذلك، وأما عن أم المؤمنين، وابن عمر فقد خالفهما غيرهما من الصحابة ﵃، وإذا وقع التنازع فالمرجوع فيه إلى ما افترض الله تعالى الرجوع إليه من القرآن والسنة.
وأما قولهم: إن التلبية استجابة فدعوى لا برهان على صحتها؛ ولو كان ما قالوا: لوجبت التلبية عند سماع الأذان، ووجوب النهوض إلى الجمعة وغيرها؛ وما التلبية إلا شريعة أمر الله بها لا علة لها إلا ما قال تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: ٢].
ثم لو كانت استجابة كما قالوا؛ لكان لم يصل بعد إلى ما دعي إليه لأنه قد بقيت عليه فروض من فروض الحج لا يكون واصلاً إلى ما دعي إليه إلا بتمامها كعرفة، وطواف