حتى يعقر حلقه، إذ ليس في الحديث أن يصيح بالتلبية بأعلى صوته، وإنما فيه أن يرفع بها صوته، فيجزيه من رفع صوته بها ما يكون إذا فعله يسمى رافعاً لصوته، ولا يعارض الأمر برفع الصوت بالتلبية ما روي من أن رسول الله ﷺ لما دنا من المدينة رفع الناس أصواتهم بالتكبير، فقال رسول الله ﷺ:«أيها الناس ارفقوا [في الرواية: اربعوا، ومعناها: ارفقوا] على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً؛ إن الذي تدعون بينكم وبين أعناق أكتافكم» [هذه الجملة الأخيرة ليست في الصحيحين، والذي في الرواية عند أحمد ومسلم والنسائي والبزار:«إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته»]، والجملة التي ذكرها المصنف منكرة، وقد سبقت الإحالة عند نقل كلام الطحاوي؛ لأن هذا في غير الحج، وشأن الحج رفع الصوت فيه بالتلبية لأنها شعاره، وروي عن أبي بكر الصديق ﵁ قال: سئل رسول الله ﷺ: أي الحج أفضل؟ قال:«العج والثج»[قلت: وهو حديث ضعيف، ويأتي الكلام عليه]، فالعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: نحر البدن، فبان الحج في رفع الصوت بالتلبية فيه عما سواه».
وقال ابن القطان الفاسي في الإقناع في مسائل الإجماع (١٤١٤ - ١٤١٧):
«واستحب الجميع أن تكون التلبية بإثر كل صلاة.
وأجمعوا أن المرأة لا ترفع صوتها بالتلبية إلا قدر ما تسمع نفسها، فهي خارجة من ظاهر الحديث.
وجميع العلماء يستحبون التلبية في دبر كل صلاة وعلى كل شرف.
وأجمعوا بالتلبية بالليل والنهار، وعلى الآكام، وفي الصحاري، وعلى كل شرف، وفي كل وادي، وعند الركوب، وإذا استوى به البعير قائماً، إلا مالك فإنه كره له ذلك إلا في المسجد الحرام».
وقال ابن حجر في الفتح (٣/ ٤٠٨): «قوله: باب رفع الصوت بالإهلال؛ قال الطبري: الإهلال هنا رفع الصوت بالتلبية، وكل رافع صوته بشيء فهو مهل به، وأما: أهل القوم الهلال، فأرى أنه من هذا؛ لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم عند رؤيته انتهى. وسيأتي اختيار البخاري خلاف ذلك بعد أبواب.
قوله: وسمعتهم يصرخون بهما جميعاً؛ أي: بالحج والعمرة، ومراد أنس بذلك من نوى منهم القرآن، … ، وفيه حجة للجمهور في استحباب رفع الأصوات بالتلبية، وقد روى مالك في الموطأ وأصحاب السنن، وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم، من طريق: خلاد بن السائب عن أبيه مرفوعاً: «جاءني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي يرفعون أصواتهم بالإهلال»، ورجاله ثقات إلا أنه اختلف على التابعي في صحابيه. وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن بكر بن عبد الله المزني، قال:«كنت مع ابن عمر فلبي حتى أسمع ما بين الجبلين. وأخرج أيضاً بإسناد صحيح من طريق المطلب بن عبد الله، قال: كان أصحاب رسول الله ﷺ يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح أصواتهم».