وعمر في ذلك كله يعلم أن النبي ﷺ قد أمر أصحابه بالفسخ إلى عمرة، وأنه ﷺ قد جمع بين الحج والعمرة في حجته:
ففي حديث ابن عباس: والله إني لأنهاكم عن المتعة، وإنها لفي كتاب الله، ولقد فعلها رسول الله ﷺ. وقال للصبي بن معبد؛ حين جمع بين الحج والعمرة: هديت لسنة نبيك. وفي حديث أبي موسى: قد علمتُ أن النبي ﷺ قد فعله وأصحابه. وأيضاً: فإن عمر ﵁، هو الذي قال: سمعت النبي ﷺ بوادي العقيق، يقول:«أتاني الليلة آت من ربي، فقال: صلَّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة» [أخرجه البخاري (١٥٣٤ و ٢٣٣٧ و ٧٣٤٣)، وتقدم تخريجه عند أبي داود برقم (١٨٠٠)].
بل إن عمر نفسه ممن كان يتمتع، ويجمع بين العمرة والحج في سفرة واحدة، ففي حديث ابن عباس: سمعت عمر، يقول: لو اعتمرت ثم اعتمرت ثم حججت؛ لتمتعت.
كذلك فإن كلام علي بن أبي طالب مع عثمان بن عفان مما يظهر حقيقة هذه المتعة وسببها، فقد روى إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، قال: والله إنا لمع عثمان بن عفان بالجحفة، ومعه رهط من أهل الشام فيهم حبيب بن مسلمة الفهري، إذ قال عثمان، وذكر له التمتع بالعمرة إلى الحج: إن أتم للحج والعمرة … أن لا يكونا في أشهر الحج [وفي رواية: أن أتموا الحج، وخلصوه في أشهر الحج]، فلو أخرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل، فإن الله تعالى قد وسع في الخير، وعلي بن أبي طالب ﵁ في بطن الوادي يعلف بعيراً له، قال: فبلغه الذي قال عثمان ﵁، فأقبل حتى وقف على عثمان هـ، فقال: أعمدت إلى سنة سنها رسول الله ﷺ، ورخصة رخص الله تعالى بها للعباد في كتابه، تضيق عليهم فيها، وتنهى عنها، وقد كانت لذي الحاجة ولنائي الدار، ثم أهل بحجة وعمرة معاً، فأقبل عثمان على الناس ﵁، فقال: وهل نهيت عنها! إني لم أنه عنها، إنما كان رأياً أشرت به، فمن شاء أخذ به ومن شاء تركه.
أخرجه أحمد (١/ ٩٢/ ٧٠٧)، وهو حديث جيد الإسناد، وتقدم تخريجه في الطريق الحادي عشر، من حديث عثمان وعلي، تحت الحديث رقم (١٨٠٦).
ويستفاد منه هنا: بأن علياً أعلم عثمان أن الله شرع هذا النسك بجمع النسكين في سفرة واحدة، إما بالتمتع، وإما بالقرآن، تخفيفاً على عباده، ورفعاً للحرج عنهم، وأنها شرعت لذي الحاجة وبعيد الدار، ممن لا يصل إلى بيت الله الحرام إلا بشق الأنفس، وهذه الرواية تؤكد أن الخلفاء الراشدين الأربعة كانوا لا يرون وجوب الفسخ الذي كان يقول به ابن عباس وأبو موسى، كما أن علياً لم يقصد إلى إنكار الإفراد على عثمان، وإنما خاف أن تهجر السنة، وقصد إلى أن تعود أحكام الشريعة لنصابها الصحيح من جواز الأنساك الثلاثة، وتفضيل ما فعله النبي ﷺ وصحابته من القرآن والتمتع، سواء بفعله ﷺ لمن ساق الهدي أو بأمره الصحابة بالتمتع لمن لم يسق الهدي، والله أعلم.