فإن قال قائل: فإن أبا موسى الأشعري قد توقف عن فتياه بها، إذ أخبر عن عمر بما أخبر؟!»، قال ابن حزم:«يكفينا من معارضة خصومنا المحتجين بهذا الحديث: إقرار عمر، بأن ذلك القول منه حدث أحدثه في النسك، وأنه تأول القرآن، وفعل النبي ﷺ، وهذا لا حجة لهم فيه، فالحدث لا يفسخ السنة، وإنما الآية التي تأول عمر ﵁ من قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٩٦]، فلا حجة فيها لمن لا يرى فسخ الحج بعمرة لمن لا هدي معه؛ لأن فسخه لذلك هو الإتمام للحج والعمرة على الحقيقة، لأنه بذلك أمر رسول الله ﷺ المبين لنا مراد الله تعالى، ولا يكون متما للحج والعمرة [إلا] من أتى بهما كما أمر، لا كما لم يؤمر. وأما تأويله ﵁ أن النبي ﷺ لم يحل حتى نحر الهدي فنعم، هذا صحيح، وهكذا يجب على كل من أحرم ومعه هدي أن لا يحل حتى ينحر هديه، ولا حجة في توقف أبي موسى، فإنما فعل ذلك مخافة، ويبين ذلك بيانا كافيا أمره للناس بالتوقف عن السنة التي عنده قبل أن يعرف ما يقول عمر، ومن المحال أن يظن ظان بأبي موسى أن يترك سنة عنده لقول لم يسمعه بعد، ولا يدري ما هو! ولكن فعل ذلك خوف أن يعرض له ما عرض في حديث الاستئذان».
قلت: وفي بعض ما قال ابن حزم مؤاخذات في تأويل دوافع الصحابة، ونحن لا نعارض في كون متعة الحج لم تنسخ، وكذلك الفسخ، فهما باقيان، لكن اختصاص الصحابة إنما كان في إلزام من لم يسق الهدي بالفسخ والمتعة، ثم زال ذلك الإلزام، وبقي جواز دخول العمرة في أشهر الحج بغير إلزام، وكذلك من قدم مكة حاجا مفردا ولم يسق هديا؛ فله أن يفسخ حجه إلى عمرة يتمتع بها إلى الحج، وله أن يبقى على إحرامه فلا يحل منه حتى يوم النحر، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
وقد سبق إيراد كلام ابن حزم في معرض الكلام عن تضعيف حديث بلال بن الحارث، ومما نقلته هناك، ويحسن إيراده هنا:«الأحاديث الصحاح تبطل هذا الحديث [يعني: حديث بلال بن الحارث] الذي رواه من لا تقوم به حجة، وتوجب أن فسخ الحج باق إلى يوم القيامة».
ثم ساق حديث جابر وابن عباس في قصة سراقة، ثم حديث مجاهد عن ابن عباس مرفوعا:«هذه عمرة استمتعنا بها … »، ثم قال (٣٧٤): «فهذه الآثار الصحاح التي لا داخلة فيها تشهد ببطلان قول من قال: إن فسخ الحج منسوخ، إذ فيها كما ترى شهادة عدلين على جابر، وهما محمد بن علي بن الحسين، وعطاء بن أبي رباح، وشهادة عدلين على ابن عباس، وهما مجاهد، وطاووس، بإخبار جابر وابن عباس، عن النبي ﷺ؛ أنه أخبرهم أن فسخ الحج ليس لهم خاصة، بل لأبد الأبد، وإلى يوم القيامة، وما كان هكذا فقد أمنا نسخه، وأيقنا أنه لا يجوز أن ينسخ أبدا، لأنه كان ﵇ يكون كاذبا حينئذ، ومن ظن هذا فقد كفر بالله ﷿، فارتفع الزيف جملة والحمد لله رب العالمين.
وقد روينا أيضا: دخول العمرة في الحج أبدا إلى يوم القيامة، وأن ذلك ليس لهم