خبر عن نفسه، فلا يدخله الوهم ولا الغلط، بخلاف خبر غيره عنه، لا سيما خبر يخالف ما أخبر به عن نفسه، وأخبر عنه به الجم الغفير: أنه لم يأخذ من شعره شيئاً، لا بتقصير ولا حلق، وأنه بقي على إحرامه حتى حلق يوم النحر، ولعل معاوية قصر عن رأسه في عمرة الجعرانة، فإنه كان حينئذ قد أسلم، ثم نسي وظن أن ذلك كان في العشر، كما نسي ابن عمر أن عمرته كانت في ذي القعدة، وقال: كانت في رجب، وقد كان معه فيها، والوهم جائز على من سوى الرسول، فإذا قام الدليل عليه صار واجباً.
وقد قيل: إن معاوية لعله قصر عن رأسه بقية شعر لم يكن استوفاه الحلاق يوم النحر، فأخذه معاوية على المروة، ذكره أبو محمد بن حزم. وهذا أيضاً من وهمه، فإن الحلاق لا يبقي غلطاً شعراً يُقصر منه، ثم يبقي منه بعد التقصير بقية، وقد قسم شعر رأسه بين الصحابة، فأصاب أبا طلحة أحد الشقين، وبقية الصحابة اقتسموا الشق الآخر، الشعرة والشعرتين والشعرات، وأيضاً: فإنه لم يسع بين الصفا والمروة إلا سعياً واحداً وهو سعيه الأول، لم يسع عقيب طواف الإفاضة، ولا اعتمر بعد الحج قطعاً، فهذا وهم محض.
وقيل: هذا الإسناد إلى معاوية وقع فيه غلط وخطأ، أخطأ فيه الحسن بن علي، فجعله عن معمر عن ابن طاووس، وإنما هو عن هشام بن حجير عن ابن طاووس، وهشام: ضعيف.
قلت: والحديث الذي في البخاري عن معاوية: قصرت عن رسول الله ﷺ بمشقص. لم يزد على هذا، والذي عند مسلم: قصرت من رأس رسول الله ﷺ عند المروة بمشقص. وليس في الصحيحين غير ذلك.
وأما رواية من روى في أيام العشر؛ فليست في الصحيح، وهي معلولة، أو وهم من معاوية، قال قيس بن سعد - راويها عن عطاء عن ابن عباس عنه -: والناس ينكرون هذا على معاوية، وصدق قيس، فنحن نحلف بالله أن هذا ما كان في العشر قط».
وقال في تهذيب السنن (١/ ٣٢٠): «واحتج بهذا من قال: إن رسول الله ﷺ تمتع في حجة الوداع تمتعاً حلَّ فيه؛ كالقاضي أبي يعلى وغيره، وهذا غلط منهم، فإن المعلوم من شأن رسول الله ﷺ أنه لم يحلّ بعمرة في حجته، وقد تواتر عنه ذلك، وقال: «لولا أن معي الهَدْيَ لأحللتُ»، وهذا لا يستريب فيه من له علم بالحديث، فهذا لم يقع في حجته بلا ريب، إنما وقع في بعض عُمَرِه، ويتعيَّن أن يكون في عمرة الجعرانة، والله أعلم، لأن معاوية إنما أسلم يوم الفتح مع أبيه، فلم يقصر عنه في عمرة الحديبية، ولا عمرة القضية، والنبي ﷺ لم يكن محرماً في الفتح، ولم يحلّ من إحرامه في حجة الوداع بعمرة، فتعين أن يكون ذلك في عمرة الجعرانة، هذا إن كان المحفوظ أنه هو الذي قصر عن رسول الله ﷺ، وإن كان المحفوظ هو الرواية الأخرى، وهو قوله: رأيته يُقَصَّر عنه على المروة، فيجوز أن يكون في عُمرة القضية والجِعْرَانة حَسْبُ، ولا يجوز أن يكون في غيرهما لما تقدم، والله أعلم».