ثم هم إنما أنكروا أنه أمرهم بالتقصير ولم يقصر، فلو كان قد قصر زال هذا، ثم هو ﷺ قد خطبهم بهذا وأمرهم به وهو على المروة والناس حوله، فلو كان قد قصر من شعر رأسه لم يخف ذلك على أصحابه في مثل ذلك المشهد العظيم، وكيف يقصر ولم يأمر غيره ممن ساق الهدي بالتقصير؟
ومن تأمل أحاديث حجة الوداع وأحوالها كان كالجازم بأن النبي ﷺ لم يحل بشيء من الأشياء.
فأما حديث معاوية فحديث شاذ، وقد طعن الناس فيه قديماً وحديثاً؛ كما أخبر قيس بن سعد، فإنهم أنكروا أن يكون النبي ﷺ قصر.
ويشبه - والله أعلم - أن يكون أصله أن معاوية قصر من رأس النبي ﷺ في عمرة الجعرانة، فإنه في عمرة القضية لم يكن أسلم بعد.
والرواية الصحيحة المتصلة: إنما فيها أنه قصر من رأس النبي ﷺ على المروة بمشقص، وكانت عمرة الجعرانة ليلاً، فانفرد معاوية بعلم هذا.
أما حجة الوداع فكان وقوفه على المروة ضحى والناس كلهم حوله، ومثل هذا لا يجوز أن ينفرد بروايته الواحد، وكانت الجعرانة في ذي القعدة.
وأما الرواية التي فيها: أنه قصر من رأسه في العشر؛ فرواية منقطعة؛ لأن عطاء لم يسمع من معاوية، ومراسيله ضعاف، ويشبه أن يكون الراوي لما سمع: عن معاوية أنه قصر من رأس النبي ﷺ بمشقص، اعتقد أنه كان في حجته، وقد علم أن دخوله مكة كان في العشر، فحمل هذا على هذا.
يوضح هذا أن ابن عباس احتج على معاوية بروايته هذه في جواز العمرة في أشهر الحج، وهم قد كانوا يسمون كل معتمر في أشهر الحج متمتعاً، وإن لم يحج من عامه، ولهذا لما سئل سعد عن المتعة قال: فعلناها وهذا كان كافراً بالعرش، يعني: معاوية، ومعاوية قد كان مسلماً قبل حجة الوداع، وإنما أراد: فعلنا العمرة في أشهر الحج قبل أن يسلم معاوية، يعني: عمرة القضية، فكيف ينهى عن العمرة في أشهر الحج؟!».
وقال الذهبي في تهذيب سنن البيهقي (٤/ ١٨٥١): «هذا كان يوم عمرة الجعرانة؛ لأن يوم عمرة القضية لم يكن معاوية آمن بعد».
وقال ابن القيم في زاد المعاد:(٢/ ١٦٨): وأما من قال: إنه حج متمتعاً تمتعاً حلَّ فيه من إحرامه، ثم أحرم يوم التروية بالحج مع سوق الهدي: فعذره ما تقدم من حديث معاوية؛ أنه قصر عن رسول الله ﷺ بمشقص في العشر، وفي لفظ: وذلك في حجته. وهذا مما أنكره الناس على معاوية، وغلطوه فيه، وأصابه فيه ما أصاب ابن عمر في قوله: إنه اعتمر في رجب، فإن سائر الأحاديث الصحيحة المستفيضة من الوجوه المتعددة كلها تدل على أنه ﷺ لم يحل من إحرامه إلى يوم النحر، وبذلك أخبر عن نفسه بقوله:«لولا أن معي الهدي لأحللت»، وقوله:«إني سقت الهدي وقرنت فلا أحل حتى أنحر»، وهذا