قلت: وقد أصاب فيما قال؛ إلا في تأويله الحديث على أنه قصر عنه بقية شعر لم يكن استوفاه الحلاق يوم النحر بمنى، فقصره معاوية على المروة يوم النحر، حيث إنه من المستبعد أن يترك الحلاق شيئاً يحتاج إلى استيفاء، وقد دلت الرواية على الاستيفاء؛ ففي رواية: عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك، قال: لما رمى رسول الله ﷺ الجمرة، ونحر نسكه، وحلق، ناول الحالق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه، ثم ناوله الشق الأيسر، فقال:«احلق»، فحلقه، فأعطاه أبا طلحة، فقال:«اقسمه بين الناس» [أخرجه مسلم (٣٢٦/ ١٣٠٥)، ويأتي تخريجه في السنن برقم (١٩٨١ و ١٩٨٢)].
كذلك؛ فإن النبي ﷺ لم يسع بين الصفا والمروة إلا مرة واحدة بعد طواف القدوم، ولم يسع بينهما بعد أن رجع من منى، إنما طاف طواف الإفاضة ولم يسع، فلم يكن هناك محل للتأويل، حيث لم يذهب للمروة يوم النحر.
وأما تخطئة الحسن بن علي ففيها مجازفة، فإنه لم ينفرد بهذه اللفظة عن عبد الرزاق، تابعه عليها: أحمد بن حنبل وسلمة بن شبيب، وقد اتفق أصحاب عبد الرزاق على روايته عن معمر عن ابن طاووس، والله أعلم.
وقال القاضي عياض في إكمال المعلم (٤/ ٣٢٥): «وقول معاوية: قصرت من رأس رسول الله ﷺ عند المروة بمشقص: يحتج به من قال: إن النبي ﷺ كان في حجة الوداع متمتعاً، ويحتمل عندنا أن يكون ذلك في غير حجة الوداع، وإنما كان في بعض عُمره ﵇.
قال القاضي: لا يصح هذا من العمرة إلا أن يكون في عمرة الجعرانة؛ لأن الصحيح أن معاوية ﵁ إنما أسلم يوم الفتح مع أبيه، أو على الرواية الأخرى له: ورأيته يُقصر عنه، فيصح فيما تقدم من عُمره قبل، ولا يصح أن يكون في حجة الوداع؛ لأنه نص أنه حلق، ولم يُختلف في هذا.
وقول ابن عباس له: لا أعلم هذا إلا حجة عليه: يدل أنه إنما احتج عليه بالتحلل بالطواف من الحج؛ إذ لا يختلف أحد في التحلل به من العمرة، والصحيح: ما تقدم أن النبي ﷺ لم يحلل، ولم يأت أن النبي ﷺ حل بوجه إلا من تأويل ابن عباس، وقد تكلمنا على تأويل قول من قال: إنه كان متمتعاً بما لا يخالف هذا، ولا يوجب تحلله بحول الله تعالى».
وقال النووي في شرحه على مسلم (٨/ ٢٣١): «في هذا الحديث: جواز الاقتصار على التقصير وإن كان الحلق أفضل، وسواء في ذلك الحاج والمعتمر؛ إلا أنه يستحب للمتمتع أن يقصر في العمرة ويحلق في الحج ليقع الحلق في أكمل العبادتين، وقد سبقت الأحاديث في هذا، وفيه: أنه يستحب أن يكون تقصير المعتمر أو حلقه عند المروة؛ لأنها موضع تحلله، كما يستحب للحاج أن يكون حلقه أو تقصيره في منى؛ لأنها موضع تحلله، وحيث حلقا أو قصرا من الحرم كله جاز، وهذا الحديث محمول على أنه قصر عن النبي ﷺ في عمرة الجعرانة؛ لأن النبي ﷺ في حجة الوداع كان قارناً، كما سبق إيضاحه،