وبشره احتجاجا بأنه محل، فلم يكره له أخذ شعره وبشره كغير المضحي، ولأن من لم يحرم عليه الطيب واللباس لم يحرم عليه حلق الشعر كالمحل.
والدليل على أحمد وإسحاق: إنه مسنون وليس بواجب؛ ما رواه الشافعي، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة،، عن عائشة ﵂، قالت: أنا فتلت قلائد هدي رسول الله ﷺ بيدي، ثم قلدها رسول الله ﷺ، ثم بعث بها مع أبي، فلم يحرم على رسول الله ﷺ شيء أحله الله له حتى نحر الهدي، فكان هدي رسول الله ﷺ وضحاياه، لأنه كان بالمدينة، وأنفذها مع أبي بكر سنة تسع، وحكمها أغلظ لسوقها إلى الحرم، فلما لم يحرم على نفسه شيئا كان غيره أولى إذا ضحى في غير الحرم، ويدل على ذلك ما قدمناه من القياسين، واستدلال أبي حنيفة علينا، وهما في استدلال أبي حنيفة بهما مرفوعان بالنص، ووجب استعمال الخبرين، فنحمل الأمر به على السنة والاستحباب دون الإيجاب، بدليل الخبر الآخر، «فلا يكون واحد منهما مطرحا».
قلت: سيأتي بيان أن لا معارضة بين الحديثين: حديث عائشة فيمن بعث بهديه إلى الحرم وأقام ببلده، فهذا لا يجتنب شيئا مما يجتنبه المحرم، وأما حديث أم سلمة فهو فيمن أراد أن يضحي فعليه أن يمسك عن شعره وأظفاره حين يدخل العشر إلى أن يضحي؛ فهذا له وجه، وهذا له وجه.
وقال ابن عبد البر في التمهيد (١٧/ ٢٢١): «وفي حديث مالك في الموطأ معان من الفقه؛ منها: أن عبد الله بن عباس كان يرى أن من بعث بهدي إلى الكعبة لزمه إذا قلده أن يحرم، ويجتنب كل ما يجتنب الحاج حتى ينحر هديه، وقد تابع عبد الله بن عباس على ذلك عبد الله بن عمر وطائفة».
وقال ابن عبد البر في الاستذكار (٤/ ٨٢): «تقليد الهدي لا يوجب على صاحبه الإحرام، وهذا المعنى الذي سيق له هذا الحديث»، وهو الحجة عند الشارع [يعني: حديث عائشة المتفق على صحته].
وقد اختلف العلماء في ذلك؛ فقال مالك ما ذكره في موطئه [يعني: الأخذ بحديث عائشة]، وبه قال: الشافعي، والثوري، وأبو حنيفة، والحسن بن حي، وعبيد الله بن الحسن، والأوزاعي، والليث، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وداود، كل هؤلاء يقول بحديث عائشة، أن التقليد لا يوجب الإحرام على من لم ينوه.
هذه جملة أقوالهم، وأما تفصيلها:
فقال الثوري: إذا قلد الهدي فقد أحرم، إن كان يريد الحج أو العمرة، وإن كان لا يريد ذلك؛ فليبعث بهديه وليقم حلالا.
وقال الشافعي، وأبو ثور، وداود: ولا يكون أحدا محرما بسياقة الهدي، ولا بتقليده، ولا يجب عليه بذلك إحرام حتى ينويه ويريده.