النظر في ذلك، فتأملنا الروايتين ونظرنا فيهما، فوجدنا أنسا أثبت في هذا المكان؛ لأنه ذكر أنه حضر ذلك، بقوله: صلينا مع رسول الله ﷺ الظهر بالمدينة أربعا، وبذي الحليفة العصر ركعتين، فهو أثبت لوجهين، أحدهما: ذكره الحضور لذلك، ولم يذكر ابن عباس حضورا، والحاضر أثبت بلا شك، إذا لم يكن بد من طلب الأثبت منهما، والوجه الثاني: إخبار أنس أنه ﷺ صلى الظهر أربعا في ذلك اليوم، وهذه صفة صلاة الحضر بلا شك، ولو صلاها بذي الحليفة لصلاها ركعتين، فصحت رواية أنس كما قلنا، وإنما دخل الوهم في رواية ابن عباس - والله أعلم -؛ لأنه كان يقدمه النبي ﷺ في ضعفة أهله لصغره؛ ولأنه كان حينئذ ابن ثلاث عشرة سنة أو أقل بشهور، … ، فقد رأى ابن عباس - والله أعلم - أنه لما تقدم إلى ذي الحليفة مع الثقل أنه ﷺ قد أتى ذا الحليفة، وأنس المشاهد لذلك أثبت بلا شك، وبالله تعالى التوفيق. ثم تدبرنا حديث ابن عباس هذا فوجدناه لا يعارض حديث أنس أصلا بوجه من الوجوه؛ لأنه لم يقل ابن عباس: إن صلاة الظهر المذكورة كانت يوم خروجه ﵇ من المدينة، لكن أنسا ذكر أن النبي ﷺ صلى الظهر بالمدينة، وصح أن ذلك كان يوم الخميس لست بقين لذي القعدة، كما قدمنا، ثم خرج ﷺ بعد الظهر إلى ذي الحليفة من يوم الخميس المذكور وصلى بذي الحليفة العصر، وبات بها على ما قد ذكرنا في صفة خروجه ﵊ من المدينة، فلما صح ذلك علمنا أن قول ابن عباس:«إنه ﷺ صلى الظهر بذي الحليفة، إنما عنى يوم الجمعة اليوم الثاني من خروجه ﵇ من المدينة، فانتفى التعارض الذي ظنناه، فصح أن الخبرين إنما هما عن ظهر من يومين، لا من يوم واحد».
وقال ابن حزم في المحلى (٥/ ١٠٣ - ١٠٤): «واختلف الناس في هذا، فقال أبو حنيفة»: أكره الإشعار، وهو مثلة، قال علي: هذه طامة من طوام العالم؛ أن يكون مثلة شيء فعله النبي ﷺ، أف لكل عقل يتعقب حكم رسول الله ﷺ، ويلزمه أن تكون الحجامة وفتح العرق مثلة؛ فيمنع من ذلك، وأن يكون القصاص من قطع الأنف، وقلع الأسنان، وجدع الأذنين مثلة؛ وأن يكون قطع السارق والمحارب مثلة؛ والرجم للزاني المحصن مثلة، والصلب للمحارب مثلة، إنما المثلة فعل من بلغ نفسه مبلغ انتقاد فعل رسول الله ﷺ، فهذا هو الذي مثل بنفسه؛ والإشعار كان في حجة الوداع، والنهي عن المثلة كان قبل قيام ذلك بأعوام؛ فصح أنه ليس مثلة، وهذه قولة لا يعلم لأبي حنيفة فيها متقدم من السلف، ولا موافق من فقهاء أهل عصره إلا من ابتلاه الله بتقليده ونعوذ بالله من البلاء.
وقال أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، ومالك: يشعر في الجانب الأيسر. قال أبو محمد: وهذا خلاف السنة كما ذكرنا، فإن قالوا: قد رويتم عن نافع عن ابن عمر؛ أنه كان إذا كانت بدنة واحدة أشعرها في الجانب الأيسر، وإذا كانت بدنتين قلد إحداهما في الجانب الأيمن والأخرى في الأيسر، وعن مجاهد: كانوا يستحبون الإشعار في الجانب الأيسر؟ قلنا: هذا مما اختلف فيه عن ابن عمر؛ وعلى كل حال فليس هو قولكم، وسالم