والحاصل فإن هذا الحديث ليس مما يحتج به لتقوية حديث أبي هريرة، لشذوذ رواية يحيى بن سعيد الأموي، وأما رواية الجماعة المحفوظة: فإنها تؤيد حديث القاسم بن محمد وعمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة في إهداء البقر عن نسائه في الحج، فإذا كان النبي ﷺ قد ذبح عن عائشة وحدها بقرة، فهذا يدل على تعدد البقر المذبوح عن نسائه، ويحتمل أنه ﷺ قد ذبح عن كل واحدة منهن بقرة، عدلاً بينهن، والله أعلم.
قال الطحاوي في شرح المشكل (٩/ ٤٦٣): «يحتمل أن يكون رسول الله ﷺ ذبح عنها ما ذبح لرفضها للعمرة، وخروجها منها قبل تمامها، كما يقول من قد ذكرناه من أهل العلم في العمرة إذا رفضت قبل تمامها: على رافضها دم».
قلت: عائشة لم ترفض عمرتها، وإنما أمرها النبي ﷺ بأن تمضي في نسكها، وأن تدخل الحج على العمرة، فكانت قارنة، والقارن عليه هدي مثل المتمتع، والدليل على ذلك حديث جابر، ففيه فقال لها النبي ﷺ:«إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي، ثم أهلي بالحج، ففعلت ووقفت المواقف، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة والصفا والمروة، ثم قال: قد حللت من حجك وعمرتك جميعاً» [أخرجه مسلم (١٣٦/ ١٢١٣)، وأبو داود (١٧٨٥). وسيأتي تخريجه في موضعه من السنن إن شاء الله].
وقال ابن حزم في حجة الوداع (٣١١ - ٣١٣): فلا يخلو حديث ابن بكر من أن يكون هو حديث يحيى بن سعيد الأموي، أو يكون حديثاً آخر، فإن كان هو ذلك الحديث نفسه فأحدهما وهم، ولا شك فيه، فإن كان كذلك؛ فعائشة أعلم بنفسها، وهي تقول: إنه لم يكن في ذلك هدي، فصح حينئذ أن رواية ابن بكر هي الوهم، وأن رواية يحيى الأموي هي الصحيحة؛ لأنها الموافقة لرواية عائشة وأبي هريرة التي صدرنا بها في هذا الباب الذي نحن فيه، من أنه نحر عن نسائه بقرة بينهن، وإن كان حديث ابن بكر حديثاً آخر غير حديث يحيى الأموي فهو موافق للحديث الذي ذكرناه في الباب الذي قبل هذا الباب، من أنه ضحى عنهن بالبقر.
وبهذا تتألف الأحاديث وتصح جميعها؛ لأن عائشة ﵂ قد ذكرت أيضاً أنه ﷺ ضحى عنهن بالبقر، وأنها أتيت بلحمها، وذكرت أيضاً أنه لم يكن في عملها هدي، فتآلفت الأحاديث، وصحت وانتفى التعارض عنها، وصح أن البقرة التي في حديث ابن بكر إنما هي التي ضحى بها ﵇ عنها، وليس في حديث ابن بكر أن تلك البقرة كانت هدياً عن قرانها، ولا يحل لأحد أن يزيد في الحديث ما ليس فيه؛ فيحصل في حد الكذب نعوذ بالله من ذلك.
وأيضاً فإن مما يبين هذا كله الذي قلناه افتراضه ﷿ على جميعنا العدل بين النساء، وأحقنا بذلك أولانا به لكل فضيلة وأقدرنا عليه رسول الله ﷺ الموفق المؤيد المعصوم، بل هو الذي نقطع بلا شك على أنه ﷺ عدل في نسائه، وفي جميع أموره، ولم يجر في شيء من ذلك، هذا ما لا شك فيه، بل نبرأ إلى الله تعالى ممن شك في ذلك. فإذ قد تيقنا