وقال أيضاً (٢/ ١٤٩): «في هذا جواز تقديم الإحرام على الميقات من المكان البعيد مع الترغيب فيه، وقد فعله غير واحد من الصحابة، وكره ذلك جماعة، أنكر عمر بن الخطاب على عمران بن الحصين إحرامه من البصرة، وكرهه الحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح، ومالك بن أنس، وقال أحمد بن حنبل: وجه العمل المواقيت، وكذلك قال إسحاق، قلت: يشبه أن يكون عمر إنما كره ذلك شفقاً أن يعرض للمحرم إذا بعدت مسافته آفة تفسد إحرامه، ورأى أن ذلك في قصير المسافة أسلم».
وقال في أعلام الحديث (٢/ ٨٣٤): «هذه المواقيت إنما وقتت لتكون حدوداً لا يتجاوزها من أراد الإحرام في حج أو عمرة، وهي لا تمنع من تقديم الإحرام قبل بلوغها، والمواقيت للعبادات على ضربين أحدهما ما ذكرناه، والآخر كمواقيت الصلوات التي إنما ضربت حدوداً لئلا تقدم الصلاة عليها».
• قلت: وقد سقت هذه الآثار لبيان الإجزاء؛ ولكن هذا الفعل خلاف السنة؛ وأما السنة: فهو الإحرام من ميقات أهل بلده، كما فعل النبي ﷺ، وكما أمر حين سئل عن موضع الإهلال؛ فإن النبي ﷺ لم يحرم من المدينة، وإنما أحرم بعدما خرج منها بعدما أتى ذا الحليفة، والمسافة بينهما قريبة، ولما سئل عن موضع الإهلال أجاب بهذه المواقيت، ولم يجز للسائل وهو في المسجد النبوي أن يحرم من بيته، فقد روى عبيد الله بن عمر، وأيوب السختياني، والليث بن سعد، وابن جريج، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعبد الله بن عون، عن نافع، عن ابن عمر، قال: نادى رجل [من أهل المدينة] رسول الله ﷺ: من أين تأمرنا [أن] نهل؟ قال:«يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن»، قال عبد الله: ويزعمون أنه قال: وأهل اليمن من يلملم [وهو حديث صحيح على شرط الشيخين، وتقدم تخريجه تحت الحديث رقم (١٧٣٧)]، وفيه دلالة على أن الإحرام من الميقات أفضل من الإحرام من بيته، أو من قبل الميقات؛ فإن إحرام السائل من بيته من المدينة كان أسهل عليه من خروجه من المدينة ثم نزوله بذي الحليفة لكي يحرم منها، مع قرب المسافة، وما خير رسول الله ﷺ بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ومع كون الأيسر أن يحرم من المدينة ثم ينطلق، فإن النبي ﷺ وقت له ذا الحليفة، ولم يخير السائل.
وفي حديث ابن عباس زاد المسألة بياناً فيمن كان دون الميقات وأن ميقاته من حيث أنشأ؛ فدل على أن من كان قبل الميقات فلا يهل من حيث أنشأ، وإنما ينتظر حتى يرد الميقات فيهل منه؛ لا من دويرة أهله؛ فلا حجة في فعل أو قول أحد بعد النبي ﷺ، ولعله قد اقترن بما صح عن الصحابة في ذلك شيء يخرجه عن ظاهره؛ لأن أكثرها وقائع أحوال، وفي أكثر أسانيدها مقال.
قال القاضي أبو يعلى الفراء في التعليقة الكبيرة (١/ ١٦١): «نص عليه [يعني: الإمام أحمد] في رواية الأثرم، وقد سئل: أيما أعجب إليك: الإحرام من الميقات، أم قبل؟ فقال: من الميقات أعجب إليَّ.