قلت: هذا الحديث: «هذه ثم ظهور الحصر»، حديث صحيح ثابت، يستفاد منه سقوط الفرض عنهن بهذه الحجة، وليس المراد تحريم الحج عليهن بعد ذلك؛ فإن عائشة قد خالفت سودة وزينب فيما فهمتاه من هذا الحديث، ونزعت بدليل آخر على جواز الحج لهن بعده ﷺ، وكذلك كانت بقية أمهات المؤمنين غير زينب وسودة يحججن بعد رسول الله ﷺ:
وقد ذهب إلى هذا المعنى: البيهقي حيث قال في السنن (٤/ ٣٢٧): «في حج عائشة ا وغيرها من أمهات المؤمنين ﵅ بعد رسول الله ﷺ: دلالة على أن المراد من هذا الخبر؛ وجوب الحج عليهن مرة واحدة، كما بين وجوبه على الرجال مرة؛ لا المنع من الزيادة عليه، والله أعلم».
وقال في موضع آخر (٥/ ٢٢٨): «قد روينا في أول كتاب الحج في باب حج النساء عن عمر: أنه أذن لهن في الحج في آخر حجة حجها وبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وفيه وفي حج سائر النساء: دليل على أن المراد بقوله ﷺ: «هذه ثم ظهور الحصر»؛ أن لا يجب الحج إلا مرة، أو: اختار لهن ترك السفر بعد أداء الواجب».
وقال الطحاوي في المشكل:«فقال قائل: ففي هذين الحديثين من قول رسول الله ﷺ لأزواجه بعد أن حججن معه حجة الوداع، فكن - غير زينب وسودة - يحججن مع خلفائه الراشدين المهديين، وأصحابه سواهم بغير إنكار منهم ذلك عليهن، وبغير منع منهم إياهن كذلك، غير زينب وسودة، فإنهما كانتا متخلفتين عن ذلك، وتحاجان من كان بخلافهما فيه منهن بما كان من رسول الله ﷺ. فكان جوابنا له في ذلك: أن الذي في هذين الحديثين قد روي عن رسول الله ﷺ فيهما، وهو الذي كان عليهن لزومه، وترك الخروج منه إلى غيره حتى روي عن رسول الله ﷺ من قوله لعائشة لما سألته أن يجاهدن معه، تعني: نفسها ومن سواها من نسائه ومن غيرهن، … »، ثم استدل بحديث عائشة الآتي ذكره على نسخ حديث لزوم الحصر، غير أنه لم يبلغ زينب وسودة فلزمتا الحديث، وقال:«فكان ذلك دليلا على أن جهادهن لا ينقطع كما لا ينقطع جهاد الرجال، فاحتمل أن يكون ذلك بعد قوله ﷺ لها ولسائر نسائه سواها ما قاله لهن في الحديثين الأولين، فوقفت على ذلك هي ومن سواها من أزواجه على ذلك دون من لم تقف عليه، ولم يقف على ذلك منهم: زينب ولا سودة، فلزمتا ما في الحديثين الأولين»؛ ثم اعتذر لهما بأن كلا قد لزم ما علم، والقول بالنسخ بالاحتمال، وبغير دليل قول ضعيف، وحمله على التأويل السابق أولى، والله أعلم.
وقال ابن حجر في الفتح (٤/ ٧٤): «وإسناد حديث أبي واقد صحيح، وأغرب المهلب فزعم أنه من وضع الرافضة لقصد ذم أم المؤمنين عائشة في خروجها إلى العراق للإصلاح بين الناس في قصة وقعة الجمل، وهو إقدام منه على رد الأحاديث الصحيحة بغير دليل، والعذر عن عائشة أنها تأولت الحديث المذكور كما تأوله غيرها من صواحباتها على