وقد أطال ابن المنذر في الرد على القائل بذلك، ومما احتج به: فعل سويد بن غفلة، وإقرار أبي بن كعب له، حيث قال سويد بن غفلة خرجت مع زيد بن صوحان، وسلمان بن ربيعة؛ حتى إذا كنا بالعذيب؛ التقطت سوطاً، فقالا لي: ألقه، فقلت: والله لا أدعه تأكله السباع، لأستمتعن به، فلما قدمتُ المدينة، لقيتُ أبي بن كعب، فذكرت ذلك له، فقال: أحسنت أحسنت.
قال ابن عبد البر في التمهيد (٣/ ١٠٨): في الحديث دليل على إباحة التقاط اللقطة، وأخذ الضالة؛ ما لم تكن إبلاً؛ لأنه ﵇ أجاب السائل عن اللقطة بأن قال:«اعرف عفاصها ووكاءها»، كأنه قال: احفظها على صاحبها، واعرف من العلامات ما تستحق به إذا طلبت، وقال في الشاة:«هي لك أو لأخيك أو للذئب»، يقول: خذها؛ فإنما هي لك أو لأخيك، أو للذئب إن لم تأخذها، كأنه يحضه على أخذها، ولم يقل في شيء من ذلك: دعوه حتى يضيع أو يأتيه ربه، ولو كان ترك اللقطة أفضل لأمر به رسول الله ﷺ فيها كما قال في ضالة الإبل، والله أعلم، ومعلوم أن أهل الأمانات لو اتفقوا على ترك اللقطة لم ترجع لقطة ولا ضالة إلى صاحبها أبداً؛ لأن غير أهل الأمانات لا يعرفونها بل يستحلونها ويأكلونها.
وكأن أحمد مال إلى الأخذ بأسباب السلامة والعافية، عملاً بقول ابن عمر في ترك اللقطة، وأن السائل كان في عافية من أخذها والتقاطها؛ ففي رواية عبد الله بن دينار، قال: قلت لابن عمر: وجدت لقطة، قال: ولم أخذتها؟ وفي رواية سالم، قال: وجد رجل ورقاً، فأتى بها ابن عمر، فقال له: عرفها، فقال: قد عرفتها فلم أجد أحداً يعترفها، أفأدفعها إلى الأمير؟ قال: إذاً يقبلها، قال: أفأتصدق بها؟ قال: وإن جاء صاحبها، غرمتها، قال: فكيف أصنع؟ قال: قد كنت ترى مكانها أن لا تأخذها.
فقد قال أحمد في رواية حنبل: واللقطة لا يعرض لها إذا رآها ملقاة، وما حاجته أن يضمن، وإن كانت من الحيوان يشغله عن معيشته، ويريد أن يرعاها ويعرفها؛ فلا يعرض لها ويتقلد أمرها [زاد المسافر (٣/ ٢٨٧٩/ ٣٨٠)].
وقال في رواية الميموني:«إذا أخذها فقد ضمن تعريفها» [زاد المسافر (٣/ ٣٨٠/ ٢٨٨٠)].
والذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة المرفوعة، وأقوال الصحابة: استحباب أخذ اللقطة، حفظاً لمال أخيه المسلم من التلف والضياع، إذا رأى في نفسه الأمانة أن يحفظها على أخيه، ويؤديها إليه، قال الشافعي في الأم (٥/ ١٣٥ - ١٣٦): «ابن عمر لعله أن لا يكون سمع الحديث عن النبي ﷺ في اللقطة، ولو لم يسمعه انبغى أن يقول: لا يأكلها، كما قال ابن عمر، انبغى أن يفتيه أن يأخذها»، إلى أن قال:«لا يجوز لأحد ترك لقطة وجدها؛ إذا كان من أهل الأمانة، ولو وجدها فأخذها ثم أراد تركها لم يكن ذلك له».