أستبعد أن يكون نقل ابن عبد البر عن البخاري، قد التبس عليه بما نُقل عن أبي الفتح الأزدي الموصلي قوله:«الأخضر بن عجلان عن أبي بكر عن أنس: لا يصح، ضعيف» [الإكمال لمغلطاي (٢/٢٤)]، والله أعلم.
قال البيهقي في الشعب: وفي هذا الحديث أمر بالكسب، ونهي عن المسألة عند القدرة على الكسب، وفي هذا المعنى ما روينا في كتاب السنن عن النبي ﷺ:«لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي، وفي حديث آخر: لا حق فيها لغني، ولا لذي قوة مكتسب، ولو لم يلزمه الكسب ليرد على نفسه حاجتها لما حرمت عليه الصدقة عند القدرة على الكسب».
قلت: حديث أنس هذا حديث حسن غريب، لم يُرو بهذا السياق؛ إلا من هذا الوجه عن أنس، ولم يتابع على سياقه أبو بكر الحنفي مع جهالته، وقد سبق الكلام مراراً عن حديث المجهول قبولاً ورداً، ومما قلت في مواضع سابقة:
إن حديث المجهول لا يقبل بإطلاق، ولا يرد بإطلاق والعبرة فيه باستقامة الرواية أو بنكارتها، وقلت: إن حديث المجهول لا يقبل ولا يردُّ لمجرد كون راويه مجهولاً، وإنما العبرة في ذلك بالقرائن الدالة على كون المجهول حفظ الحديث، ووافق فيه الثقات، أم أنه خالفهم، وأتى فيه بما ينكر عليه.
[وقد سبق الكلام مراراً عن حديث المجهول، وأن حديثه إذا كان مستقيماً فإنه يكون مقبولاً صحيحاً؛ وذلك في فضل الرحيم الودود (٨/ ٣٥٣/ ٧٥٩)، وانظر أيضاً فيما قبلته أو رددته من حديث المجهول: فضل الرحيم الودود (٨/ ٥١٠/ ٧٨٨) و (٨/ ٥٤٥/ ٧٨٨) و (٨/ ٥٨٥/ ٧٩٥) و (٩/ ١٦٠/ ٨٢٥) و (١٠/ ٤٣٠/ ٩٩١) و (١١/ ٣٧٩/ ١٠٧٠) و (١١/ ٥٤٠/ ١١٠٠) و (١٠/١٢/١١٠٦) و (١٢/ ٣٨٦/ ١١٨٤) و (١٣/ ١٥٢/ ١٢٢٥)، والأحاديث بأرقام (١٣٦٨ و ١٤٤٦ و ١٤٦٣ و ١٤٧٧ و ١٤٧٨ و ١٥٠٠ و ١٥٥٧ و ١٥٦١ و ١٥٧٨ و ١٥٨٨ و ١٥٩٣)].
وفي هذا الحديث: توبع أبو بكر الحنفي على أصل جواز بيع المزايدة، وعلى التحذير والترهيب من المسألة، وعلى الحث على الاكتساب؛ إلا أنه لم يتابع على لفظه في طرفه الأخير:«إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: الذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع».
فإن قيل: قد جاء بعض ألفاظه في حديث حبشي بن جنادة:
الذي رواه مجالد بن سعيد، عن عامر الشعبي، عن حبشي بن جنادة السلولي، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول في حجة الوداع، وهو واقف بعرفة، أتاه أعرابي، فأخذ بطرف ردائه، فسأله إياه، فأعطاه وذهب، فعند ذلك حرمت المسألة فقال رسول الله ﷺ:«إن المسألة لا تحل لغني، ولا لذي مرة سوي، إلا لذي فقر مدقع، أو غُرم مفظع، ومن سأل الناس ليثري به ماله، كان خُموشاً في وجهه يوم القيامة، ورضفًا يأكله من جهنم، ومن شاء فليقل، ومن شاء فليكثر».