ولابن عبد البر في الاستذكار (٨/ ١٩٣) وجه آخر في بيان تصرف البخاري، حيث قال:«وما أظن البخاري - والله أعلم - ترك إخراج حديث يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار هذا؛ إلا لإرسال مالك له، ولم يجعل من خالفه ورواه عن يحيى بن سعيد وأسنده حجة على مالك، وخرجه من حديث سعيد بن عبيد الطائي عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة، ذكره عن أبي نعيم الفضل بن دكين عن سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار، وهو مخالف لمعنى ما جاء به يحيى بن سعيد فيه، من تبدئة الساعي المدعي بالأيمان». قلت: ولو كان الأمر كما ادعى ابن عبد البر، لما أخرج البخاري حديث الجماعة عن يحيى بن سعيد موصولاً في ثلاثة مواضع من صحيحه، مما يدل على أنه كان يذهب إلى ترجيح رواية الوصل على الإرسال، خلافاً لما ادعاه ابن عبد البر؛ وإنما الصواب أن مالكاً قصر به، فأرسله، والوصل محفوظ برواية جماعة من الثقات الحفاظ، وزيادتهم مقبولة، ولذلك احتج به الشيخان.
• وممن ذهب إلى الجمع بين الأحاديث ابن رجب، وابن حجر:
قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (٢/ ٢٣٣): «وسعيد بن عبيد: اختصر قصة القسامة، وهي محفوظة في الحديث، فقد خرج النسائي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ أن النبي ﷺ طلب من ولي القتيل شاهدين على من قتله، فقال: ومن أين أصيب شاهدين؟ قال: «فتحلف خمسين قسامة؟»، قال: كيف أحلف على ما لم أعلم؟ قال:«فتستحلف منهم خمسين قسامة؟»، فهذا الحديث يجمع بين روايتي سعيد بن عبيد ويحيى بن سعيد، ويكون كل منهما ترك بعض القصة، فترك سعيد ذكر قسامة المدَّعِين، وترك يحيى ذكر البينة قبل طلب القسامة، والله أعلم».
وقال ابن حجر في الفتح (١٢/ ٢٣٤): «كذا في رواية سعيد بن عبيد، لم يذكر عرض الأيمان على المدعين، كما لم يقع في رواية يحيى بن سعيد طلب البينة أولاً، وطريق الجمع أن يقال: حفظ أحدهم ما لم يحفظ الآخر، فيحمل على أنه طلب البينة أولاً، فلم تكن لهم بينة، فعرض عليهم الأيمان فامتنعوا، فعرض عليهم تحليف المدعى عليهم فأبوا، وأما قول بعضهم: إن ذكر البينة وهم؛ لأنه ﷺ قد علم أن خيبر حينئذ لم يكن بها أحد من المسلمين، فدعوى نفي العلم مردودة، … ».
• وهناك من تأوله على وجه آخر:
قال البيهقي في الخلافيات (٧/ ٧٥) وهذا نصه، وكذا قال في المعرفة (١٦٣٧٠)، وقال نحوه في السنن (٨/ ١٢٠): «وهذا يحتمل أن لا يخالف رواية يحيى بن سعيد عن بشير، وكأنه أراد بالبينة أيمان المدعين مع اللوث، كما فسره يحيى بن سعيد، أو طالبهم بالبينة، كما في هذه الرواية، فلما لم يكن عندهم بينة عرض عليهم الأيمان، كما في رواية يحيى بن سعيد، فلما لم يحلفوا ردها على اليهود، كما في الروايتين جميعاً، والله أعلم»، ثم استشهد بمرسل سليمان بن يسار، ويأتي ذكره.