استغنى دخل في عموم النصوص المحرمة، والحديث الأول فيه ضعف، ثم يجوز أن تحرم أخذ الصدقة إذا جاءته من غير المسألة، فإن المذكور فيه تحريم المسألة، المسألة ولا يحرم فنقتصر عليه».
ثم قال بعد كلام طويل (١/ ٤٩٥): «الثالث: أن من ملك نصاباً زكائياً، لا تتم به الكفاية من غير الأثمان فله الأخذ من الزكاة. قال الميموني: ذاكرت أبا عبد الله، فقلت: قد يكون للرجل الإبل والغنم تجب فيها الزكاة، وهو فقير، ويكون له أربعون شاة، وتكون لهم الضيعة لا تكفيه، فيعطى من الصدقة؟ قال: نعم، وذكر قول عمر: أعطوهم، وإن راحت عليهم من الإبل كذا وكذا، قلت: فهذا قدر من العدد أو الوقت؟ قال: لم أسمعه. وقال في رواية محمد بن الحكم: إذا كان له عقار يشغله أو ضيعة تساوي عشرة آلاف أو أقل أو أكثر لا تقيمه؛ يأخذ من الزكاة. وهذا قول الشافعي».
وقال في موضع آخر (٦/ ٤٧١): «والغنى يختلف؛ فمنه غنى يوجب الزكاة، وغنى يمنع أخذها، وغنى يمنع المسألة».
• ومن أعدل الأقول في مسألة حد الغنى الذي به يحل أخذ الصدقة؛ ما حكاه عن أهل الحجاز: ابن جرير الطبري، حيث يقول في مسند عمر من تهذيب الآثار (١/ ٥٣): «وعلى هذا القول عوام علماء أهل الحجاز.
واعتلوا لإنكارهم تحديد قدر الغنى بحد من الوزن والكيل بأن قالوا: أحوال الناس في الغنى والفقر متفاوتة، وأسبابهم فيه مختلفة، فمنهم ذو العيال والمؤن الكثيرة الذي لا يغنيه إلا العظيم من المال؛ لاستغراق نفقته التي لا بد منها في كل يوم، اليسير من المال في اليسير من المدة، ومنهم ذو المؤونة الخفيفة، والخلي من العيال الذي يغنيه اليسير من المال، ويخرجه القليل منه من الفاقة والفقر، إلى الغنى وحسن الحال.
قالوا: فغير جائز لأحد تحديد المقدار الذي يخرج المرء من حال الفاقة والفقر، إلى الغنى واليسر بحد من الكيل والوزن، مع الأسباب التي ذكرنا؛ فيكون بتحديده ذلك قد حرم على الفقير ما أباحه الله له من الصدقة، إن كان قدر الذي حد لا يخرجه من فقره، وأجاز للغني إن كان ما دون ذلك يخرجه من الفاقة والفقر، وهو لقدر ذلك مالك أخذ ما قد حرم الله عليه أخذه من الصدقة، وأباح له من مسألة الناس ما قد حظر الله عليه مسألتهم إياه على لسان رسوله ﷺ.
قالوا: ولا بيان في ذلك أبين مما بينه الله ﷻ لعباده في تنزيله بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَكِينِ﴾ الآية [التوبة: ٦٠]. قالوا: فالمسألة حلال للفقير والمسكين ما دام الفقير فقيراً الفقر المتعارف في الناس، والمسكين مسكيناً المسكنة المعلومة فيهم.
قالوا: وإنما لم يحد تعالى ذكره الغنى بحد في تنزيله من الكيل والوزن؛ لعلمه بالسبب الذي ذكرنا من تفاوت أحوال خلقه في ذلك.
قالوا: وترك تحديده ذلك للسبب الذي وصفنا نظير تركه تحديد متعة المطلقة، إذ