«لا تحل الصدقة لغني» على الخصوص، وأنه معني به من الصدقة المفروضة بعضها لما وصفنا؛ ولأن الله تعالى ذكره قد جعل في الصدقة المفروضة حقاً لصنوف من الأغنياء، وهم: المجاهدون في سبيل الله، والعاملون عليها، وأبناء السبيل الذين لهم ببلدهم غنى، وهم منقطع بهم في سفرهم».
وقال أيضاً (٤١٩): «يعني ﷺ بقوله: «ولا لذي مرة سوي»: ولا لذي براءة من العاهات المزمنة، القوي على الكسب، وكل صحيح الجسم بريئه من العاهات والآفات فالعرب تدعوه: ذا مرة سوي».
ومن فقه أحاديث الباب، وما يتلوه من أبواب:
قال الشافعي في الأم (٣/ ١٨٢): «الفقير - والله أعلم -: من لا مال له، ولا حرفة يقع منه موقعاً زمناً كان أو غير زمن، سائلاً كان أو متعففاً. والمسكين: من له مال أو حرفة يقع منه موقعاً، ولا يغنيه، سائلاً كان أو غير سائل» [المعرفة للبيهقي (٩/ ٣٢٤)].
وقال أبو عبيد:«أرى الأحاديث قد جاءت في الفصل بين الغني والفقر بأوقات مختلفة، ففي بعضها أنه السداد، أو القوام من العيش، وفي آخر أنه مبلغ خمسين درهماً، وفي الثالث أنه الأوقية، وفي الرابع أنه الغداء أو العشاء، وكل هذه الأقوال قد ذهب إليها قوم، وأخذوا بها.
فأما حديث قبيصة بن المخارق في السداد والقوام، فهو أوسعها جميعاً، غير أنه لا حد له يوقف عليه، ولا مبلغ من الزمان ينتهي إليه سداده وقوامه. وقد تأوله الذي يأخذ به على أن يكون له عقدة، تكون غلتها تقيمه وعياله سنتهم. يقول: فإذا ملك تلك العقدة، فهناك تحرم عليه الصدقة، وهي تحل له فيما دون ذلك».
قال أبو عبيد:«ولا أحب هذا القول؛ لأنه ليس مذهب العلماء.
وأما حديث سهل بن الحنظلية في الغداء والعشاء، فإنه أضيقها جميعاً، وليس وجهه عندي - والله أعلم - أن يقول: من ملك غداء أو عشاء، لا يملك من الدنيا شيئاً غيره، فالصدقة محرمة عليه، ولو كان كذلك، ثم أعطاه رجل زكاة ماله، وهو يملك أكثر من غداء أو عشاء، ما أجزت المعطي؛ لأنه أعطى غنياً، ولكن معناه فيما نرى على ما هو مبين في الحديث نفسه؛ أنه من سأل مسألة ليستكثر بها، يقول: فإذا لم يكن شأن هذا من مسألته أن ينال منها قدر ما يكفه ويعفه، ثم يمسك، ولكنه يريد أن يجعلها إزادته وطعمته أبداً، فإنه يستكثر من جهنم، وإن كان معدماً لا يملك إلا قدر ما يغديه أو يعشيه، ألا تراه ﷺ قد اشترط الاستكثار في المسألة؟ وهذا كالأحاديث الأخر».
ثم قال: «فأرى المعنى إنما دار على الكراهة للتكثر بالصدقة، والاغتنام لها، فإنما هو تغليظ على السائل نفسه، فأما من أعطاه من زكاة ماله، وهو مالك لأكثر من غداء أو عشاء، فإنه مجزئ عن المعطي إن شاء الله. وعلى هذا أمر الناس، وفتيا العلماء.
وأما حديث عبد الله في توقيت خمسين درهماً، وحديث الأسدي في الأوقية، فإلى