هذين انتهى أكثر الفقهاء في الفصل بين الغني والفقير، وبين من تحل له الصدقة أو تحرم عليه.
فكان سفيان يأخذ بحديث عبد الله، فلا يرى أن يعطاها من له خمسون درهماً فصاعداً.
وكان مالك بن أنس - فيما أعلم - يأخذ بحديث الأسدي في الأوقية؛ لأنه كان يحدثه عن زيد بن أسلم أيضاً.
وقد روى بعضهم عنه أنه كان لا يوقت في ذلك وقتاً. وهذا عندي هو المحفوظ من قوله.
والحديث الذي فيه ذكر الأوقية هو أعجب الحديثين إليَّ، وأصحهما إسناداً، وإن كان صاحب النبي ﷺ فيه غير مسمى، فإنه قد كان شاهد رسول الله ﷺ وشافهه بذلك.
كذلك هو في حديث مالك، وحديث الليث بن سعد، وقد احتمل العلماء حديثه، ومع هذا إنا قد وجدنا له مصدقاً من حديث آخر.
ثم احتج على هذا المعنى بحديث أبي هريرة الذي رواه:
محمد بن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رجل: يا رسول الله! عندي دينار، قال:«أنفقه على نفسك»، قال: عندي آخر، قال:«أنفقه على أهلك»، قال: عندي آخر، قال:«أنفقه على ولدك»، قال: عندي آخر، قال:«أنفقه على خادمك»، قال: عندي آخر، قال:«أنت أبصر». [وهو حديث صحيح، يأتي تخريجه عند أبي داود في آخر الزكاة برقم (١٦٩١) إن شاء الله تعالى].
قال أبو عبيد:«فأراه ﷺ قد أمره بالإنفاق على نفسه وعياله، حتى بلغ أربعة دنانير، وهي الأوقية؛ لأن الدينار معدول بعشرة دراهم، فلما جاوزها فوض إليه الأمر في الصدقة بقوله: «أنت أبصر»؛ أي: إن شئت فتصدق الآن؛ لأنه رآه قبل بلوغ الأوقية فقيراً، وبعدها غنياً». ثم قال:«وهذا مفسر بحديثه الآخر: «إنما الصدقة عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول»» [ويأتي تخريجه برقم (١٦٧٦)، وهو حديث صحيح، أخرجه البخاري (١٤٢٦ و ١٤٢٨ و ٥٣٥٥ و ٥٣٥٦)، من حديث أبي هريرة. وأخرجه البخاري (١٤٢٧)، ومسلم (١٠٣٤)، من حديث حكيم بن حزام].
ثم قال:«فبهذا القول نقول، وإنما وجه الحديث: أن تكون هذه الأوقية التي يملكها فضلاً عن مسكنه الذي يؤويه ويؤوي عياله، وفضلاً عن لباسهم الذي لا غناء بهم عنه، وعن مملوك إن كانت بهم إليه حاجة».
ثم قال:«فإذا كان للرجل ما وراء الكفاف من المسكن واللباس والخادم، مما يكون قيمته أوقية، فليست تحل له الصدقة، وإن لم يكن له صامت أيضاً؛ لقول النبي ﷺ: «من كانت له أوقية أو عدلها»، فهذا هو العدل. وقد روي عن عمر بن عبد العزيز نحو هذا المعنى».