• والثانية: من جهة المعنى: يمكن الجمع بين حديث: «أفطر الحاجم والمحجوم»، وحديث: احتجم وهو صائم، بما ذهب إليه ابن خزيمة، حيث قال في صحيحه (٣/ ٢٢٧) - بعد أن ساق حديث:«أفطر الحاجم والمحجوم» -: «فقد ثبت الخبر عن النبي ﷺ أنه قال: «أفطر الحاجم والمحجوم»، فقال بعض من خالفنا في هذه المسألة: إن الحجامة لا تفطر الصائم، واحتج بأن النبي ﷺ احتجم وهو صائم محرم، وهذا الخبر غير دال على أن الحجامة لا تفطر الصائم؛ لأن النبي ﷺ إنما احتجم وهو صائم في سفر؛ لا في حضر؛ لأنه لم يكن قط محرماً مقيماً ببلده، إنما كان محرماً وهو مسافر، والمسافر - وإن كان ناوياً للصوم - قد مضى عليه بعض النهار وهو صائم عن الأكل والشرب، وإن الأكل والشرب يفطرانه، لا كما توهم بعض العلماء أن المسافر إذا دخل الصوم لم يكن له أن يفطر إلى أن يتم صوم ذلك اليوم الذي دخل فيه، فإذا كان له أن يأكل ويشرب وقد نوى الصوم وقد مضى بعض النهار وهو صائم يفطر بالأكل والشرب، جاز له أن يحتجم وهو مسافر في بعض نهار الصوم، وإن كانت الحجامة مفطرة، والدليل على أن للصائم أن يفطر بالأكل والشرب في السفر في نهار قد مضى بعضه وهو صائم: … »، ثم احتج له بحديث أبي سعيد في الفطر في السفر، إلى أن قال:«وكذلك كان للنبي ﷺ أن يحتجم وهو صائم في السفر، وإن كانت الحجامة تفطر الصائم؛ لأن من جاز له الشرب - وإن كان الشرب مفطراً - جاز له الحجامة - وإن كان بالحجامة مفطراً».
وقال ابن حبان في صحيحه (٨/ ٣٠٦): «هذان خبران قد أوهما عالماً من الناس أنهما متضادان، وليسا كذلك؛ لأنه ﷺ احتجم وهو صائم محرم، ولم يرو عنه ﷺ في خبر صحيح أنه احتجم وهو صائم دون الإحرام، ولم يكن ﷺ محرماً قط إلا وهو مسافر، والمسافر قد أبيح له الإفطار: إن شاء بالحجامة، وإن شاء بالشربة من الماء، وإن شاء بالشربة من اللبن أو بما شاء من الأشياء. وقوله ﷺ: «أفطر الحاجم والمحجوم» لفظة إخبار عن فعل مرادها الزجر عن استعمال ذلك الفعل نفسه».
وقال ابن القيم في تهذيب السنن (٢/٤١ - ط عطاءات العلم): «وأما لفظ: احتجم وهو صائم، فلا يدل على النسخ ولا تصح المعارضة به لوجوه: أحدها: أنه لا يعلم تاريخه، ودعوى النسخ لا تثبت بمجرد الاحتمال. الثاني: أنه ليس فيه أن الصوم كان فرضاً، ولعله كان صوم نفل خرج منه الثالث: حتى لو ثبت أنه صوم فرض، فالظاهر أن الحجامة إنما تكون للعذر، ويجوز الخروج من صوم الفرض بعذر المرض. والواقعة حكاية فعل، لا عموم لها. ولا يقال: قوله: وهو صائم، جملة حال مقارنة للعامل فيها، فدل على مقارنة الصوم للحجامة؛ لأن الراوي لم يذكر أن النبي ﷺ قال: إني باق على صومي، وإنما رآه يحتجم وهو صائم، فأخبر بما شاهده ورآه، ولا علم له بنية النبي ﷺ، ولا بما فعل بعد الحجامة، مع أن قوله: وهو صائم، حال من الشروع في الحجامة وابتدائها، فكان ابتداؤها مع الصوم، وكأنه قال: احتجم في اليوم الذي كان صائماً فيه،