أما مذهب ابن عمر؛ فإنما استنبطه من فعل النبي ﷺ في الحج؛ فقد ثبت من حديث ابن عمر: أنه كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ثم يبيت بذي طوى، ثم يصلي به الصبح، ويغتسل، ويحدث أن نبي الله ﷺ كان يفعل ذلك، فهذا الأظهر أنه كان في الحج، لأن حديث ابن عمر هذا إنما كان في صفة حجة النبي ﷺ، وهذا يمكن حمله على أن الإمساك عن التلبية إنما كان استعداداً للمبيت بذي طوى، والاستراحة من عناء السفر، وإلا فالذين نقلوا حجته ﷺ لم يذكروا هذا الإمساك عن التلبية، بل ذكروا أنه لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، جاء ذلك من حديث جابر بن عبد الله، حين أخبر أن النبي ﷺ لزم تلبيته، وثبت أيضاً: من حديث الفضل بن العباس، وعلي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد، وابن مسعود: أنه ﷺ لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، ثم ذكر هذا الإمساك لا يعني عدم المعاودة، بل عاد إليه بعد ذلك يقيناً، كما دلت على ذلك الأخبار، وعلى هذا فإن هذا الإمساك عن التلبية في هذا الموضع يكون خاصاً بالحج دون العمرة، ويكون ابن عمر هو الذي حمل الإمساك عن التلبية في هذا الموضع في الحج على الإمساك عن التلبية في العمرة، اجتهاداً منه، وقد خولف فيه، خالفه ابن عباس، كما تقدم ذكره.
وأما ما ذهب إليه ابن مسعود؛ فإنه أمر به، ولم يحل السائل على فعل النبي ﷺ أو قوله في مثل هذا الموطن؛ كما فعل لما أنكر عليه بعض الناس تلبيته عند الدفع من عرفة، أو عند الدفع من جمع؛ فإنه قد حاجهم بفعل النبي ﷺ في هذا الموطن بعينه، وأنها هي السنة.
وأما تلبيته على الصفا؛ فقد احتج لها بفعل بعض الأنبياء، مما يدل على أنه كان اجتهاداً منه، ثم إن مسروقاً قد أخبره بأن الصحابة يخالفونه في ذلك، فقد قال مسروق لابن مسعود: إن الناس ينهون عن الإهلال في هذا المكان وفي رواية: إن ناساً من أصحابك ينهون عن الإهلال هاهنا، فدل على أن الصحابة كانوا يخالفونه في ذلك، والله أعلم.
فدل على أن قول ابن عباس هو الأشبه بالصواب، وقد علله بعض الفقهاء بوجوه من التعليل، وجدت من أحسنها:
ما قاله الكاساني في بدائع الصنائع (٢/ ٢٢٧)، قال:«ولأن استلام الحجر نسك، ودخول الحرم ووقوع البصر على البيت ليس بنسك، فقطع التلبية عند ما هو نسك أولى، ولهذا يقطع التلبية في الحج عند الرمي لأنه نسك، كذا هذا، والله أعلم».
وقال أيضاً (٢/ ١٥٦): وقال مالك في المفرد بالعمرة: يقطع التلبية إذا رأى البيت، وهذا غير سديد؛ لأن قطع التلبية يتعلق بفعل هو نُسُك كالرمي في حق المحرم بالحج، ورؤية البيت ليس بنسك؛ فلا يقطع عندنا، فأما استلام الحجر فنسك كالرمي، فيقطع عنده؛ لا عند الرؤية.