وفي قوله "أنا أعْلَم بذلك مِنْك" شِدَّة على أبي شُريح وإغْلاظ عليه، ولو تَرَك "مِنْك" صَحّ الكَلام، ولكنّه أدْخَلها للمَعنى الذي ذَكَرناه.
وقَد قَالُوا في قوله تعالى:{أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}[الكهف: ٧٢]: فيه بعضُ مُسامَحَة ولِين؛ لأنها أوّل خصاله، فعَذَره فيها، وقَالَ له في الثانية:{أَلَمْ أَقُلْ لَكَ}[الكهف: ٧٥]، فزاد لَفْظة "لك" إغْلاظًا عليه؛ لأنّها الثانية. (١)
وفي كَلامِه تغليظ آخَر سُوَى الخطَاب، وهو [نداؤه](٢) حين قَال له: "يا أبا شُريح". وقد قَالوا في قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ}[الأنعام: ٧٤]، قُرئ بالضّمِّ على النِّداء، وبالنَّصب على البَدَل (٣)، ولم يجئ مِثله في قَوله تعالى:{وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ}[الأعراف: ١٤٢] بالرفع، وإنما قُرئ بالنصب لا غير. (٤)
قال الإمامُ فخْر الدِّين: لأنّ النّداءَ استخفافٌ بالمنادَى، والاستخفاف بالمنادَى يكُون لائقًا في قصة إبراهيم - عليه السلام -؛ لأنّ أباه كَان كافرًا مُصرًّا على كُفره؛ فحَسُن أنْ يخاطبه بالغِلْظة زَجرًا له على ذلك [القُبْح](٥). وأمّا في قِصّة مُوسى: فقد كَان مُوسى استخْلَف هَارون على قَومه، فما كان الاستخفافُ لائقًا بهذا الموضع؛ فلا جَرَم لم تكُن القراءة بالضَّمِّ جَائزةً. (٦)
قوله:"إنَّ الحَرَمَ لا يُعيذُ عَاصِيًا ولا فَارًّا بدَم": الجمْلَة محكيّة بالقَوْل، وجملة "لا
(١) انظر: البحر المحيط (٧/ ٢٠٩). (٢) غير واضحة بالأصل. والمثبت من (ب). (٣) قرأ الجمهور بفتح "الراء"، وقرأ أبي وابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم بضمها على النداء. انظر: البحر المحيط (٤/ ٥٦١). (٤) انظر: تفسير الرازي (١٣/ ٣٤)، البحر المحيط (٤/ ٥٦١)، (٥/ ١٦١). (٥) كذا بالأصل. وفي "تفسير الرازي" (١٣/ ٣٤): "القبيح". (٦) انظر: تفسير الرازي (١٣/ ٣٤).