ذلك إخْبارٌ عن حَقِيقَةِ المُفْلِسِ، وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيسَ ذَلِكَ (١) المُفْلِسَ». تَجَوُّزٌ لم يُرِدْ به نَفْيَ الحَقِيقَةِ، بل أراد أن فَلَسَ الآخِرَةِ أشَدُّ وأعْظَمُ؛ بحيث يَصِيرُ مُفْلِسُ الدُّنْيا بالنِّسْبَةِ إليه كالغَنيِّ. ونَحْوُ هذا قَوْلُه عليه الصلاةُ والسَّلامُ:«لَيسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَغْلِبُ نَفْسَهُ عِنْدَ ألْغَضَبِ»(٢). وقَوْلُه:«لَيسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، إنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ»(٣). ومنه قولُ الشّاعِرِ (٤):
قِيلَ: إنَّما سُمِّيَ هذا مُفْلِسًا؛ لأنَّه لا مال له إلَّا الفُلُوسَ، وهي أَدْنَى أنْواعِ المالِ. والمُفْلِسُ في عُرْفِ الفُقَهاءِ: مَن دَينُه أكْثَرُ مِن مالِه. وسَمَّوْه مُفْلِسًا وإن كان ذا مالٍ؛ لأنَّ ماله مُسْتَحَقُّ الصَّرْفِ في جِهَةِ دَينِه، فكأنَّه مَعْدُومٌ. وقد دَلَّ عليه تَفْسِيرُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُفْلِسَ الآخِرَةِ، فإنَّه أخْبَرَ أنَّ له حَسَناتٍ أمثال الجِبالِ، لكنَّها لا تَفِي بما عليه، فقُسِمَتْ بينَ الغُرَماءِ،
(١) في الأصل، ر: «ذلكم». (٢) تقدم تخريجه في ٧/ ٢١١. (٣) أخرجه البخاري، في: باب الغنى غنى النفس، من كتاب الرقاق. صحيح البخاري ٨/ ١١٨. ومسلم، في: باب ليس الغنى عن كثرة العرض، من كتاب الزكاة. صحيح مسلم ٢/ ٧٢٦. والترمذي، في: باب ما جاء أن الغنى غنى النفس، من أبواب الزهد. عارضة الأحوذي ٩/ ٢٢١. وابن ماجه، في: باب القناعة، من كتاب الزهد. سنن ابن ماجه ٢/ ١٣٨٦. والإمام أحمد، في المسند: ٢/ ٢٤٣، ٢٦١، ٣١٥، ٣٩٠، ٤٣٨، ٤٤٣، ٥٣٩، ٥٤٠. (٤) نسب ابن منظور البيت، في اللسان (م وت)، إلى عدى بن الرعلاء الغساق، أحد بني عمرو بن مازن، والرعلاء أمه، وكذلك نسبه ابن يعيش في: شرح المفصل ١٠/ ٦٩. ونسبه ياقوت، في محجم الأدباء ١٢/ ٩ إلى صالح بن عبد القدوس.