منها اعتقاد أحدهم أنه لو نظر في كتب الحديث نظر أهله، فرآها (١) وتفقد أسانيدها، وتعرَّف أحوال رواتها، فعلم بذلك الصحيح منها، وسقم السقيم، وحسن الحسن، فاته كثير ممّا احتوى عليه الكتاب المذكور من مشتت الأحاديث، التي لا يحتوي عليها إلا ما يتعذر على الأكثر من الناس جمعه.
وهذا ممَّن اعتقده غلط، بل إتقان كتاب من كتب الحديث، وتعرفه كما يجب، يحصل له أكثر ممَّا يحصل له الكتاب المذكور من صناعة النقل؛ فإِنَّهُ ما من حديث يبحث عنه حق البحث، إِلَّا ويجتمع له من أطرافه، وضم ما في معناه إليه، والتنبه لما يعارضه في جميع ما يقتضيه أو بعضه، أو يُعاضده ومعرفة أحوال نَقَلَتِه وتواريخهم، على ما يفتح له في الألف من الأحاديث.
وكذلك يَجُرُّ عليهم أيضًا اعتقاد أن ما ذكره من عند البخاري مثلا لا بد فيه من البخاري، وما علم أنه ربما يكون عند جميعهم، وما ذكره من عند أبي داود، ربما ليس هو عند الترمذي، أو النسائي، ولذلك ذكره من عند أبي داود وما علم أنه ربما لم يَخْلُ منه كتاب.
وكذلك أَيضًا يَجُرُّ عليهم تحصيل الأحاديث مُشتّتة غاية التشتيت بحيثُ يتعرض للغلط في نسبتها إلى مواضعها بأدنى غيبة عنها، ولذلك ما ترى المشتغلين بيه، الآخذين أنفُسَهُم بِحِفْظِه، يَنْسِبُون إلى مسلم ما ليس عنده أو إلى غيره ما لم يذكره، وكذلك ربما شعر أحدُهُم بأَنَّهُ بذلك مدلس كتدليس مَنْ يروي ما لم يسمع عمن قد روى عنه، من حيثُ توهّم قوله: ذكر مسلم والبخاري (٢) كذا، أنه قد رأى ذلك في موضعه، ونقله من حيث ذكر، فيتَحَرَّج من ذلك أحدهم فيُحْوِجُه ذلك إلى أن يقول: ذكره عبد الحق، فيحصل من ذلك في مثل ما يحصل فيه من يذكر من النحو مسألةً في كتاب سيبويه (٣)، فيقول: ذكرها
(١) كذا في النسخة الخطية: (فرآها)، وفي المطبوع من بيان الوهم والإيهام (٢/ ٨): (فرواها). (٢) كذا في النسخة الخطية: (مسلم والبخاري)، وفي بيان الوهم والإيهام (٢/ ٩): (مسلم أو البخاري). (٣) هو: عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء، أبو بشر، الملقب سيبويه، من أهل البصرة، إمام النحاة، وأول من بسط علم النحو، وصنف كتابه المسمى: الكتاب في النحو، لم يصنع قبله ولا بعده مثله، توفي على الأرجح سنة ١٨٠ هـ، وهو شاب له من العمر ٣٢ وقيل ٤٠ سنة. ينظر: تاريخ بغداد (١٢/ ١٩٠) ترجمة رقم: (٦٦٥٨)، وإنباه الرواة على أنباه النحاة، =