كنا في غناء عن هاته اللمعة، لولا أن دعاوى كثير من المستشرقين عن تأخر كتابة الحديث ووقوع طفرة في التصنيف في القرن الثالث دون مقدمات وسوابق محتذاة، تجعل إغفال هذا الأمر دون الإشارة إلى خلافه، إملاء لهؤلاء، وسكوتا في معنى الإقرار، ولا يصح… وإلا فكيف سلك التأليف الحديثي سبلا متعرجة قبل أن يصل إلى هذه الدرجة من النضج الصارخ، مع طبقة البخاري ومن تلاه من تلاميذه، نضج يتبدى من خلال اختيار الموارد، وترتيب الرواة، واعتبار الروايات، والتمييز بين الأصول والمقاطيع وما يصلح للباب وما يليق بالتعليق، وما هو من قبيل المعارض، أو المعاضد، كالمتابع والشاهد… وهلم جرا.
ولا تحسبن البخاري سمح النفس بالتوقيف على سر صنعته والدلالة على موطن شفوفه فيها، فقد أحكم أغلاقا بين ذلك وطالبه، بالاختصار المتناهي، والإشارة المختلسة، والترجمة النافذة المضغوطة، والمقاصد المختلفة المضمرة في إهاب واحد… وقمن بمن رام إدراك ذلك ودلف إلى حياضه، أن يبذل مهره، وأن يظهر مهره، وأن ينوء بأثقال من النظر المتصل إن رفده تحصيل وتصميم، ولحقته بعد ذلك عناية وتوفيق، وأمامه بعد ذلك أشواط تترى يتلافي فيها الشوارد، ويقيد فيها الأوابد.
ولأجل ما مر استحق البخاري أن يكون بحق أنموذجا عن جماع نضوج العلم في طبقته وطبقة مشايخه ودليله، فلذلك طوى في كتبه العظام علم النقدة الكبار من مشيخته ومن قبلهم، سواء ذاك الذي تلقاه بالسماع والقراءة، أو ذاك