يُستَثْنَى مِن ذلك الكلب والخِنزير؛ لنجاستهما، والذين استثنوا الخنزير فقط قالوا: لقول الله سبحانه وتعالى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ}[الأنعام: ١٤٥]، وقوله:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}[الأنعام: ١٤٥]، والذين قالوا يشمل ذلك كله إذا دبغ؛ أخذوا بعموم قوله:"إذَا دُبغَ الإهَاب، فَقَدْ طَهُرَ"(١).
وَأَكْثَر ما يَدُور من النقاشات والحوار كائنٌ بين الَّذين قالوا: جِلْدُ الميتة لا يطهر بالدِّباغ، وبين الذين قالوا: يَطْهر بالدِّباغ.
قوله: (وَذَلِكَ أَنَّ فِيهِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كتَبَ: أَلَّا تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ "، قَالَ: وَذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَامٍ) (٢).
إذًا، لَدَينا الآن أدلَّة الَّذين يَقُولون بجَواز الانتفاع بجُلُود المَيتة إذا دُبغَت، وَهذَا هوَ القَول الذي نرَى أنه الحقُّ، وبه تَلْتقي الأدلَّة، ولَا شكَّ أن طالبَ الفقه عندما يريد أن يُحقِّق في مسألةٍ، وأن يُحرِّرها، فإنَّه يسلك عدة مسالك، فَهُوَ لا ينتقل إلى قَضيَّة النَّسخ إلَّا بعد أن يَتَعذَّر عليه الجَمْعُ بين الأدلَّة، والجَمْعُ هنا ممكنٌ وميسَّر وسهلٌ (٣)، ودَعْوى النسخ تحتاج إلى أن نعرف المتقدِّم مِنَ المتأخّر، فقوله: بشهر أو شهرين أو بسنة وأربعين يومًا ما المانع أن يكونَ بعض تلك الأحاديث جاء متأخِّرًا عن ذلك؟! فالتي أطلقت أيضًا الذين قالوا بأن "جلد الميتة إذا دبغ فهو طاهر"، أجابوا عن حديث المعارض لهم، وهو حديث عبد الله بن عكيم بعدة أجوبة:
أولًا: قَالوا: هو حديث مُرسَل؛ لأن ابن عكيم لم يلقَ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهذه علة.
(١) تقدم تخريجه. (٢) لم أقف على لفظ: "عام ". (٣) يُنظر: "شرح الكوكب المنير" لابن النجار (٥٢٩٣)؛ حيث قال: "ولا نسخ مع إمكان الجمع بين الدليلين؛ لأنا إنما نحكم بأن الأول منهما منسوخ إذا تعذر علينا الجمع، فإذا لم يتعذر، وجمعنا بينهما بكلام مقبول، أو بمعنى مقبول، فلا نسخ ".