للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الرضاعة من المجاعة"؛ لأن المجاعة لا تختصُّ بالصغير، بل هو يجوع وكثيرًا ما يجوع الإنسان، بل إن الإنسان إذا جاع وأشرف على الموت وخُشي عليه الهلاك؛ فإنه يجب عليه أن يأكل من الميتة كما قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: ٣].

فالإنسان يأكلُ من المخمصة (١)، ويدفع الغصة (٢) التي ربَّما تودي بحياته فيشرب محرَّمًا ليدفع الغصة؛ لأن مهجة (٣) المسلم غالية في الإسلام، فلا يريد الإسلام من المسلم أن يضيِّع هذه المهجة؛ لأن المسلم إنما خُلق لغاية، ولحكمة أشار الله سبحانه وتعالى إليها بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧)} [الذاريات: ٥٦، ٥٧] فهذا دليل قطعي على أن الغاية من خلق الجن والإنس إنما هي عبادة الله سبحانه وتعالى، وأن الله إنما خلق هذا الخلق ليقوموا بعمارة هذا الكون، فينشروا العدل، والفضيلة بين الناس جميعًا مسلمهم وغير مسلمهم، وهذا منهج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذه هي الأسس التي قامت عليها الشريعة الإسلامية، فإن من أركانها القوية الثابتة التي لا تتزعزع إقامة العدل كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء: ٥٨].

إذًا قد تبيَّنا من هذا أن الآخرين قالوا: وإن المجاعة لا تنحصر فغالبًا الذي يحتاج إلى اللبن إنما هو الصغير، لكن الجاعة قد تحصل للكبير أيضًا.

ولا شكَّ إنه عندما تتعدد الأدلة ويختلف العلماء في مفهومها تتعدد الأقوال وتتنوع، والمسلم في هذا المقام وبخاصة طالب العلم الذي


(١) "المخمصة": خلاء البطن من الطعام بسبب الجوع والمجاعة. انظر: "العين" للخليل (٤/ ١٩١)، و"النهاية" لابن الأثير (٢/ ٨٠).
(٢) "الغصة": ما اعترض في الحلق فأشرق. انظر: "جمهرة اللغة" لابن دريد (١/ ١٤٢).
(٣) "المهجة": دم القلب خاصة. انظر: "الصحاح" للجوهري (١/ ٣٤٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>