إذًا قُدِّمَ سالم مولى أبي حذيفة؛ لأنَّه كان أعلمهم بالقراءة في وقته، فهذا دليل آخر.
وكذلك أوصى الرسولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- قومَ عمرو بن سَلِمَة، فقال في آخر الحديث:"ولْيَؤُمكم أكثرُكم قرآنًا"(١).
فهذه أدلة تدل دلالة واضحة صريحة على أنَّ الأقرأ يتقدم.
وذهب الآخرون (٢) إلى أنَّ الذي يُقَدَّم الأفقه، وقالوا: إنَّ المراد بالأقرأ هنا هو الأفقه، وعَلَّلُوا ذلك بتعليلِ: أنَّ الصحابةَ -رضي اللَّه عنهم- كان الأقرأُ منهم هو الأفقه، ولكنَّ الآخرين ردُّوا ذلَك، وقالوا: إنَّ العبرةَ بعمومِ اللفظ، لا بخصوصه، فالخطاب عندما وُجِّه من الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يقصد به الصحابة -رضي اللَّه عنهم- وحدهم، ولكنَّه يضع تشريعًا عامًّا لهذه الأُمَّة منذ بعثته -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى أن يرثَ اللَّهُ الأرضَ ومن عليها، ويقول:"يَؤُمُّ القومَ أقرؤُهم لكتابِ اللَّه". فهذا لا يختص به الصحابة، هذا جواب.
والجواب الآخر أنَّهم قالوا: قوله بعد ذلك: "فإن كانوا في القِراءة سَوَاء؛ فأعلمهم بالسُّنَّة".
ذلك دليل على أنَّه ليس المراد هو الأقرأ، لأنَّه لو كان الأقرأ هو الأفقه لما نقلهم إلى المرحلة الثانية، وقال:"فإن كانوا في القِرَاءة سَوَاء؛ فأعلمهم بالسُّنَّة"، لأنَّ الأفقهَ عالم بالسُنَّةِ (٣).
(١) أخرجه البخاري (٤٣٠٢) عن عمرو بن سَلَمَة -رضي اللَّه عنه-. (٢) (الجمهور): الحنفية والمالكية والشافعية. (٣) يُنظر: "المغني"، لابن قدامة (٢/ ١٣٤)، وفيه قال: "فإن قيل: إنما أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بتقديم القارئ؛ لأن أصحابه كان أقرؤهم أفقَههم، فإنهم كانوا إذا تَعَلَّمُوا القرآنَ تَعَلَّمُوا معه أحكامه. قال ابن مسعود: "كنا لا نُجاوز عشرَ آيات حتى نعرف أمرَها ونهيَها وأحكامَها". قلنا: اللفظ عام، فيجب الأخذ بسومه دون خصوص السَّبب، ولا يخص ما لم يَقم دليل على تخصيصه، على أن في الحديث ما يُبطل هذا التأويل، فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "فإن استووا فأعلمهم بالسنة". فَفَاضَلَ بينهم في العِلم بالسُّنَّة مع تَساويهم في القراءة".