سعدت الدولة الإسلامية في أزمان رجال كانوا خير من أخرجتهم بطون الأمهات، ظفرت بهم الأمة برافعي شأنها ومشيدي ذكرها، ومؤسسي مجدها، وكان من الطراز الأول فيهم صاحب هذه الصحيفة الذي كان قصارى الملوك من بعده أن يتشبهوا به ويتخذوه قدوة في إحياء دارس المعارف ونشر لواء العلوم وإكرام النابغين بما ينشط المشتغلين بالدرس المنقطعين إلى البحث والتنقيب والتأليف والتصنيف على متابعة السير في ذلك السبيل الحميد والمنهج الرشيد.
قال صاعد الأندلسي في طبقات الأمم: لما أفضت الخلافة إلى الخليفة السابع - من الخلفاء العباسيين - عبد الله المأمون بن هارون الرشيد بن محمد المهدي ابن أبي جعفر المنصور تمم ما بدأ به جده المنصور، فأقبل على طلب العلم في مواضعه واستخراجه من معادنه بفضل همته الشريفة وقوة نفسه الفاضلة فداخل ملوك الروم وأتحفهم بالهدايا الخطيرة وسألهم بما لديهم من كتب الفلاسفة فبعثوا إليه بما حضرهم من كتب أفلاطون وأرسطاطاليس وأبقراط وجالينوس وإقليدس وبطليموس، وغيرهم من الفلاسفة، فاستخار لها مهرة التراجمة، وكلفهم إحكام ترجمتها، فترجمت له على غاية ما أمكن، ثم حض الناس على قراءتها، ورغبهم في تعلمها، فنفقت سوق العلم في زمانه، وقامت دولة الحكمة في عصره، وتنافس أولو النباهة في العلوم، لما كانوا يرون من إحظائه لمنتحليها، واختصاصه لمتقلديها، فكان يخلو بهم، ويأنس بمناظرتهم، ويلتذ بمذاكرتهم، فينالون عنده المنازل الرفيعة والمراتب السنية، وكذلك كانت سيرته مع سائر العلماء والفقهاء والمحدثين والمتعلمين وأهل اللغة والأخبار والمعرفة بالشعر والنسب، فأتقن جماعة من ذوي الفنون والتعلم في أيامه كثيرا من أجزاء