الإسلام بناها في بغداد مترجمنا المستنصر بالله على شط دجلة من الجانب الشرقي مما يلي دار الخلافة، وجعل عليها من الأوقاف شيئا كثيرا وأقام لها الأطباء والصيادلة حتى ظهرت في أبهر حلة من الاتساع والزخرفة وما فيها من رجال العلوم الدينية والفنون الدنيوية وهي اليوم مهملة تكاد تعفو آثارها وقد أصبح قسم منها دارا للمكس وآخر مطبخا وآخر قهوة تعرف بقهوة الشط.
كانت سيرة المستنصر حميدة كسيرة أبيه، وكان جده الناصر يحبه ويسميه القاضي لوفرة عقله، ولكن ما ينفع العقل والفضل والأعمال منتقضة والدولة ذاهبة إلى الخراب، وفي أيامه قويت شوكة قبيلة المغول التترية (وعلا شأنها بظهور جنكيز خان سنة ٥٩٩ هـ، وأصلها من جنوبي سيبريا) فاستولوا على كثير من المملكة الإسلامية حتى أوشكوا يدخلون بغداد في عهده إلا أنهم دفعوا عنها، وكانت مدة خلافته سبع عشرة سنة إلا شهرا وإقامته بغداد وفيها توفي ودفن.
المستعصم بالله
ولد سنة ٥٨٨ هـ وتوفي سنة ٦٥٦ هـ
أتى على الدولة العباسية حين من الدهر كان فيه الخليفة يقنع بامتلاك دار السلام عاصمة ملكه فلا يرى إلى تلك الأمنية من سبيل، ذلك بعد أن ملكوا البلاد وسادوا العباد وامتدت سلطتهم وعظمت سلطنتهم، ولكن الدول في رأي بعض الباحثين من علماء الاجتماع كالأناسي إذا أدركها الهرم لم تنجع في دائها الأدواء، قال ابن خلدون: « .. وإذا كان الهرم طبيعيا في الدولة كان حدوثه بمثابة حدوث الأمور الطبيعية كما يحدث الهرم في المزاج الحيواني والهرم من الأمراض المزمنة التي لا يمكن دواؤها ولا ارتفاعها لما أنه طبيعي والأمور الطبيعية لا تتبدل .. وربما يحدث عند آخر الدولة قوة توهم أن الهرم قد ارتفع