ولي قبل الخلافة أعمالا لأبيه وأخيه، وغزا الروم في القسطنطينية فصالحته الملكة إيريني (Jrene: marte en ٨٠٣)، على أن تفتدي منه المملكة الرومانية بسبعين ألف دينار تدفعها إليه في كل عام، ولما بويع بالخلافة وله من العمر أربع وعشرون سنة قام بأعباء الملك أحسن قيام وتشبه في أفعاله بالمنصور [إلا] في بذل المال؛ فإنه لم ير خليفة أجود من الرشيد، وكان لا يضيع عنده إحسان محسن ولا يؤخر، وكان يحب الشعر والشعراء ويجزل لهم العطاء، وكانت دولته من أحسن الدول وأكثرها وقارا ورونقا وخيرا، ولم يجتمع على باب خليفة من العلماء والشعراء والكتاب والندماء ما اجتمع على بابه.
جاءته البيعة ليلة وفاة أخيه الهادي وفي تلك الليلة ولد ابنه المأمون؛ فكانت ليلة، ولد فيها خليفة، وولي خليفة، ومات خليفة.
وكانت بينه وبين ملك فرنسا كارلوس الكبير الملقب بشارلمان (٨١٤ - ٧٤٢: bharlemagne) صلة موثقة العرى، وكثيرا ما كان الرشيد يتحفه بالهدايا، ومن جملة ما أهداه ساعة شمسية دقاقة، وشطرنج ثمين، وأرسل إليه مفاتيح كنيسة القمامة في القدس مع أمر لنوابه بأن يعاملوا زائري الأراضي المقدسة أحسن معاملة.
وكان الرشيد يطوف في أكثر الليالي مستترا بألبسة العامة في أسواق بغداد وشوارعها فيعلم من أمر رعيته ما خفي عنه من ظالم يزجره أو مظلوم ينصره أو عالم يقربه، وهو أول خليفة عربي لعب بالكرة والصولجان، وهو صاحب وقعة البرامكة وكانوا طائفة فارسية الأصل استولت على الملك إدارته وسياسته وماله ورجاله، فخاف الرشيد بادرة تبدر منهم نحوه ففتك بهم تلك الفتكة الهائلة فقتل بعضهم وشرد بعضا وسجن آخرين في ليلة واحدة لم يتمكنوا بها من أقل حركة يقومون بها على قوتهم وتصرفهم في الدولة والأعمال والأموال، وذلك سنة ١٨٧ هـ، وسيأتي الكلام عليهم أيضا في أخبارهم.