للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فيه، فارتحلوا حتى بلغوا المدائن، فدفعوا الرسالة إلى أحد الحجاب فأوصلها إلى كسرى، فعقد لهم مجلسا لسماع أقوالهم ودعاهم، فمثلوا بين يديه وألقى كل واحد منهم ما تهيأ له من الكلام، ولولا خوف الإطالة لذكرت أقوالهم لما فيها من الحكمة والإبداع، وكان الترجمان يؤدي إليه معنى ما يقولون. فلما انتهوا قال كسرى: «قد فهمت ما تكلم به خطباؤكم ولولا علمي بأن الأدب لم يثقف أودكم وأنه ليس لكم ملك يجمعكم فتنطقون بين يديه منطق الرعية الخاضعة لم أجز لكم كثيرا مما تكلمتم به، وإني لأكره أن أجبه وفودي وقد قبلت ما كان في منطقكم من صواب وصفحت عما كان فيه من خلل فانصرفوا إلى ملككم فأحسنوا مؤازرته والتزموا طاعته واردعوا سفهاءكم وأقيموا أودهم وأحسنوا أدبهم فإن في ذلك صلاح العامة»، ثم أكرمهم وأحسن إليهم فعادوا إلى ديارهم، وإن شئت الإطالة في قصة الوفود فقد وردت في المجلد الأول من العقد الفريد لابن عبد ربه فارجع إليه.

ولما انتقل ملك فارس إلى كسرى ابرويز بن هرمز الرابع أراد مصاهرة العرب فأرسل إلى النعمان يخطب منه بعض بنات عمه لأولاده، فامتنع النعمان وقال للرسول: «ما في عين السواد وفارس ما تبلغون به حاجتكم؟» وكتب إلى كسرى يعتذر له بأنه ليس في بنات عمه ما يرضيه، وانصرف الرسول فأعاد ما قاله النعمان وترجم له لفظة «العين» بالبقر: وهي من الأوصاف الحسنة في العربية لتشبيه عيون النساء بعيون البقر في السعة والملاحة، فكان كلامه: «ما في بقر السواد وفارس ما تبلغون به حاجتكم» فأغضب هذا القول كسرى، وسكت أشهرا، ثم بعث إلى النعمان يستقدمه إليه، وعلم النعمان بما كان، فأخذ سلاحه وأمواله ونجأ إلى بعض القبائل فلم يحموه حتى نزل على بني شيبان سرا فأودعهم أهله وماله وتوجه مستسلما إلى كسرى، فقبض عليه وأرسله مبعدا إلى خانقين، فأقام بها مسجونا حتى أصابها وباء فمات بالطاعون.

وبسببه كانت واقعة ذي قار بين الفرس والعرب؛ فإن كسرى لما اعتقل

<<  <   >  >>