وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ عَامَّتُهَا إذَا جُرِّدَ إسْنَادُ الْوَاحِدِ مِنْهَا: لَمْ يَخْلُ عَن مَقَالٍ قَرِيبٍ أَو شَدِيدٍ، لَكِنَّ تَعَدُّدَهَا وَكَثْرَةَ طُرُقِهَا يُغَلِّبُ عَلَى الظَّنِّ ثبُوتَهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ بَل قَد يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِهَا.
وَأَيْضًا فَقَد رُوِيَ عَن الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَا يُوَافِقُ ذَلِكَ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ بِالرَّأيِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ بِالتَّوْقِيفِ.
فَرَوَى الدارقطني بِإِسْنَاد صَحِيحٍ … عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "سَارِعُوا إلَى الْجُمْعَةِ؛ فَإِنَّ اللهَ يَبْرُزُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فِي كثِيبٍ مِن كَافُورٍ، فَيَكُونُونَ فِي قُرْبٍ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ تَسَارُعِهِمْ إلَى الْجُمُعَةِ في الدُّنْيَا".
وَهَذَا الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ أَمْز لَا يَعْرِفُهُ إلَّا نَبِي أَو مَن أَخَذَهُ عَن نَبِيٍّ، فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَخَذَهُ عَن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ عَن أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَأمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ -وَهُوَ أَشْهَرُ الْأحَادِيثِ- فِيمَا يَكُونُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْآخِرَةِ مِن زِيارَةِ اللهِ وَرُويَتِهِ وَإِتْيَانِ سُوقِ الْجَنَّةِ: فَأَصَحّ حَدِيثٍ عَنْهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ (١) فِي "صَحِيحِهِ" عَن حَمَّادِ بْن سَلَمَةَ عَن ثَابِتٍ عَن أَنَسٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا يَأْتُونَهَا كُلَّ جُمُعَةٍ فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ، فتحْثُوا فِي وجُوهِهِمْ وَثيَابِهِمْ، فَيَزْدَادُونَ حُسْنًا وَجَمَالًا، فَيَقُولُ لَهُم أَهْلُوهُم: وَاللهِ لَقَد ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَاًا، فَيَقُولُونَ: وَأنتُمْ وَاللهِ لَقَد ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنا وَجَمَالًا".
فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ إلَّا أَنَّهُم يَأْتُونَ السُّوقَ، وَفِيهِ يَزْدَادُونَ حُسْنًا وَجَمَالًا، وَأَنَّ أَهْلِيهِم ازْدَادُوا أَيْضًا فِي غَيْبَتِهِمْ عَنْهُم حُسْنًا وَجَمَالًا، وَإِن كَانُوا لَمْ يَأْتُوا سُوقَ الْجَنَّةِ.
= ولا ريب أنّ الشيخ يستحضر معناه، ولكنه لم يُرد أنْ يذكر المعنى، بل أراد نص العبارة، فأيّ دقة أعظم من هذا؟(١) (٢٨٣٣).
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute