أَمِنَ المَنُونِ وَريْبِها تَتَوَجَّعُ … وَالدَّهْرُ لَيْسَ بمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ
قَالَت أُمامة (١): مَا لجسْمِكَ شَاحِباً … منذ ابتَذَلْتَ وَمِثْل مالِك يَنْفَع (٢)؟
أَمْ مَا لِجَنْبِكَ لَا يُلَائِم مَضْجَعاً … إِلاَّ أَقَضَّ عَلَيكَ ذاكَ المَضْجَعُ (٣)؟
فَأَجَبْتَها: أَنْ ما لِجِسْمِي (٤) أَنَّه … أَوْدَي بَنِيَّ مِنَ البلَاد فَوَدَّعُوا (٥)
أَوْدَى بَنِيَّ فَأَعْقَبُونِي حَسْرَةً … بَعْدَ الرُّقَادِ وَعَبْرَةً لا تُقْلِعُ
فَالعَيْنُ بَعْدَهُمُ كأَنَّ حِدَاقها … كحِلت بشَوْك فَهْيَ عور (٦) تدمع
سبقوا هويّ (٧) وأعنقوا لِهَوَاهُمُ … فَتُخَرَّمُوا وَلِكُلِّ جَنْبٍ مَصْرَع
فَغَبَرْت بَعْدَهُمُ بِعَيْشِ نَاصِب … وَإِخَالَ أَنِّيَ لَاحِق مُسْتَتْبَعُ (٨)
وَلَقَدْ حَرَصْت بِأَن أُدَافِعَ عنهمُ … فَإِذَا المَنِيَّةُ أَقْبَلَتْ لَا تُدْفَعُ
وَإِذَا المَنِيَّة أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا … أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةِ لَا تَنْفَعُ
وَتَجَلَّدِي للشَّامِتِين أُرِيهم … أَنِّي لِرَيبِ الدَّهْرِ لَا أَتَضَعْضَعُ
حَتَّى كَأَنِي لِلْحَوَادِثِ مَرْوَةٌ … بِصَفَا المُشَقَّرِ كُلَّ يَوم تُقْرَع (٩)
وَالدَّهْرُ لَا يَبْقَى عَلَى حَدَثَانِهِ … جُوْنَ السَّحَابِ لَهُ جَدَائِدُ أَرْبَعُ (١٠)
أخرجه أبو عمر مطولاً، ولحسن هذه الأبيات أوردناها جميعها، واللَّه أعلم.
(١) في الديوان: «أميمة».
(٢) ابتذلت: امتهنت نفسك في الأعمال، لموت من كان يكفيه أمره. ويروى الفعل بالبناء للمجهول أيضا. تدعوه أمامه إلى أن يشترى من العبيد من يكفيه أمره.
(٣) أي: صار تحته مثل القضض، وهو الحصى.
(٤) في المطبوعة، «بجسمي». والمثبت عن المصورة، والديوان.
(٥) يقول: الّذي أنحل جسمي وأهزله هلاك أبنائى.
(٦) في المطبوعة والاستيعاب: «عورى». والمثبت عن المصورة والديوان. وعور: جمع عوراء، من العوار- بضم أوله وتشديد ثانيه- وهو: ما يصيب العين من رمد أو قذى.
(٧) هوى: هواي. وأعنقوا: أسرعوا.
(٨) غبرت: بقيت. ناصب: ذي نصب- بفتحتين- وهو: الجهد والتعب. ومستتبع: مستلحق، يقول: أنا مذهوب بي، وصائر إلى ما صاروا إليه.
(٩) المروة: حجر أبيض براق تقتدح منه النار، ويقال لمن كثرت مصائبه قرعت مروته. والمشقر: سوق بالطائف.
وفي الديوان: «بصفا المشرق»، والمشرق: مسجد الخيف بمنى.
(١٠) في الديوان: «جون السراة»، وقيل في شرحه: يريه به حمار الوحش، والجون: الأسود. والسراة: أعلى الظهر. والجدائد: أتنه.
اعتبر الشاعر في حدثان الدهر بحمار الوحش، لما ذكروا أنه يعمر مائتي سنة وأكثر من ذلك.