للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث / الرقم المسلسل:

تعالى (١)، وذلك بإدراكِ القُلُوب الرَّبَّانِيَّةِ والفُهُومِ الإيمانِيَّةِ، لا بالأفكار العَقْلِيَّةِ والنُّفُوسِ البَشَرِيَّةِ. وَلِذَلك يرى أَهْلُ التَّوقيفِ مِنْ عُلماءِ الظَّاهِرِ إذا مَرُّوا بشيءٍ مِنْ ذلِكَ أَضْرَبُوا عن الخوض في سَبيله، وتَجَنَّبُوا طُرُقَ تَعْلِيلِهِ، وتَلَقَّوْهُ حُكْمًا مَقْبُولًا عن اللّه تعالى ورَسُولهِ، فافتَخَرُوا بِقَبُولهِ، ومَنْ أراد غَيْرَ ذلِكَ لم يَبْرَحْ في تحيُّره وخموله.

وقد ذَكَرَ بَعْضُ العُلَماءِ في تحديد حرمِ مكَّة مَعْنىً آخَر، وَهُوَ أن الحجرَ الأسْوَدَ لَمَّا أُهْبِطَ مِنَ الجَنَّةِ، وكان أَبْيَضَ صَافِيًا لَمَّاعًا يَبْهَرُ ضِياءً وشُعَاعًا، انْتَشَر نُورُهُ، فَبَلَغَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ مَبْلَغًا وَمَحَلًا صيَّر اللّه تعالى ذلك حَدًّا لحرمه، وأمَرَ آدم عليه السَّلام أنْ يَخُطَّ عَليه بَيَانًا لِشَرفِهِ (٢).

وذكرِ النَّقَّاشُ وَجْهًا آخَر، وَهُوَ أنَّ آدم عليه الصَّلاة والسَّلام لَمَّا أُهْبطَ إلى الأرْضِ وتَغيَّرَتْ أَحْوَالُه واعْتَرَتْهُ المُكَدِّرات مِنْ أمُورِ هذه الدَّار المَدِرةُ الكَدِرة، شكا إلى اللّه تعالى شَعَثَ رَأْسِهِ وَطُولَ شَعْرِه، فأتاهُ جبريلُ عليه الصَّلاةُ والسَّلام بالحَجَرِ الأسْوَدِ، وَأَمَرَهُ حتَّى أمَرَّهُ على رأسه فانْحَلَقَ شَعْرُه، وأمر اللّه تعالى الرِّياحَ فَفَرَّقَتْهُ حتَّى صيَّرَتْهُ في جوانِبِ البَيْتِ على بُعْد، ثُمَّ أَمَرَ جبريل عليه السَّلام، أَنْ يَخُطَّ بجناحِهِ على مَرَاتِعِ الشَّعر، وكان ذَلِكَ تَحْدِيدًا للحرم.

والذي يُفْهَمُ مِنْ معنى الحرم بِحَسَبِ الظَّاهِر: التزامُ ما أَثْبَتَ اللّه تعالى له من الأحكام، ثُمَّ اغْتِنَامُ ما خَصَّهُ بهِ مِنَ البركاتِ وتَضْعِيفِ الحَسَنَاتِ، وانتهازِ ما يَجدُهُ المُؤمِن عِنْدَ صَيرُورَتِهِ في ذَلك المعنى، وحلوله في ذلك المَحَلِّ الأشْرَفِ الأسْنى، مِن الخيرات الظَّاهِرَةِ، والأنوارِ الباهِرَةِ، والأمور الغريبةِ التي يَكِلُّ اللِّسانُ عن عبارتها وتَقْرِيرِها، ويَمَلُّ البيان عن الإتيان بِقَلِيلٍ مِن كثيرها.


(١) ضنائن اللّه: خواص خلقه. القاموس (ضنن) ص ١٢١٢.
(٢) شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ١/ ٥٤.