وقال شيوخ الزُّهْد: تَرَقَّى (١) النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - في هذا الدُّعاء من مقامٍ إلى مقامٍ، حتّى انتهى إلى المقامِ الأَشْرَفِ، قال أوَّلًا:"أعوذُ برِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ".
ثمّ قال:"وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ".
ثمَّ نظرَ فهذا به لم يستطع في تلك الحالة أنّ يُحْصِي في تلك الحالة متعلّقات الصِّفات، فقال:"وَبِكَ مِنْكَ" فَرَدَّ الأَمْرَ إلى الذَّاتِ، فَنَقَلَهُ اللهُ أيضًا من مقامات الكرامات (٢) من منزلةٍ إلى أخرى، فقال:{طه}(٣) يا رجل.
ثمّ قال:{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}(٤){يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}(٥) يا من تزَمَّلَ بكسائه وتَدَثَّرَ به، قم إلى عبادةِ رَبِّكَ، على معنى المَلاَطَفَةِ في الخِطَاب، وكما قال النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم - لعليّ بن أبي طالب:"قُمْ يَا أَبَا تُرَابٍ"(٦).
ثم نَقَلَهُ إلى مرتبةٍ أُخْرَى أشرف منها فقال:{يس}(٧) أي يا سيِّد (٨). ولم يَثْبُت هذا بالنَّقْلِ، ولو ثبت هذا بالنَّقلِ لكان حَسَنًا.
وقال تعالى:{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}(٩) فأقسم بحياته، ثم زادَهُ تشريفًا فأَقْسَمَ بغُبَارِ خَيْلِهِ، فقال:{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا}(١٠).
ومقاماته في الشَّرَفِ كثيرة (١١)، وهذا أنموذج منها، وقد حقَّقَنَا ذَلك وبيَّنَّاهُ في "الكتاب الكبير"، فَلْتُنْظَر هنالك.
الحديث السّادس:
مالكٌ (١٢)، عن زياد بن أبي زِيَاد، عن طَلْحَةَ بن عُبَيْدِ الله بن كُريزٍ؛ أنَّ رسولَ
(١) جـ: "خرج". (٢) جـ: "الكرامة". (٣) سورة طه: ١. (٤) المزمل: ١. (٥) المدثر: ١. (٦) أخرجه البخاريّ (٦٢٠٤)، ومسلم (٢٤٠٩) من حديث سهل بن سعد. (٧) سورة يس: ١. (٨) حكاه أبو عبد الرّحمن السلمي عن جعفر الصادق، نصّ على ذلك القرطبي في تفسيره: ١٥/ ٥. (٩) الحجر: ٧٢. (١٠) العاديات: ١. (١١) غ، جـ: "ومقامه في الشرف كثير" والمثبت من القبس. (١٢) في الموطّأ (٥٧٢) رواية يحيى.