الْمَدِينَةِ فَلَا يَجُوزُ فِيهِ الِاصْطِيَادُ لِأَحَدٍ وَلَا قَطْعُ الشَّجَرِ كَحَرَمِ مَكَّةَ، فَإِنْ فَعَلَ أَثِمَ وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِمَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَقَالَ سَعْدٌ: جَزَاؤُهُ أَخْذُ سَلَبِهُ، وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: صَيْدُ الْمَدِينَةِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَكَذَلِكَ قَطْعُ شَجَرِهَا. وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْضُ مَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَهُ بِحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:] مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَصِيدُ فِي حُدُودِ الْمَدِينَةِ أَوْ يَقْطَعُ شَجَرَهَا فَخُذُوا سَلَبَهُ [. وَأَخَذَ سَعْدٌ سَلَبَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. قَالَ: وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ سَلَبُ مَنْ صَادَ فِي الْمَدِينَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ. وَاحْتَجَّ لَهُمِ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا بِحَدِيثِ أَنَسٍ- ما فعل النفير، فَلَمْ يُنْكِرْ صَيْدَهُ وَإِمْسَاكَهُ- وَهَذَا كُلُّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ. أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ، ولو صح لم يكن في نسخ أحد السَّلَبِ مَا يُسْقِطُ مَا صَحَّ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ، فَكَمْ مِنْ مُحْرِمٍ لَيْسَ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَيْدٌ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ، أَنَّهُ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْشٌ فَإِذَا خَرَجَ لَعِبَ وَاشْتَدَّ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا أَحَسَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَضَ، فَلَمْ يَتَرَمْرَمْ «١» كَرَاهِيَةَ أَنْ يُؤْذِيَهُ. وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِمْ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: لَوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ تَرْتَعُ بِالْمَدِينَةِ مَا ذَعَرْتُهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا «٢» حَرَامٌ [فَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا ذَعَرْتُهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْوِيعُ الصَّيْدِ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَرْوِيعُهُ فِي حَرَمِ مَكَّةَ. وَكَذَلِكَ نَزْعُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ النُّهَسَ- وَهُوَ طَائِرٌ- مِنْ يَدِ شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعْدٍ كَانَ صَادَهُ بِالْمَدِينَةِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ فَهِمُوا مُرَادَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْرِيمِ صَيْدِ الْمَدِينَةِ، فَلَمْ يُجِيزُوا فِيهَا الِاصْطِيَادَ وَلَا تَمَلُّكَ مَا يُصْطَادُ. وَمُتَعَلَّقُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ:] اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ مِثْلَ مَا حَرَّمَ بِهِ مَكَّةَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَا يُخْتَلَى «٣» خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا [وَلِأَنَّهُ
حَرَّمَ مَنْعَ الِاصْطِيَادِ فِيهِ فَتَعَلَّقَ الْجَزَاءُ بِهِ كَحَرَمِ مَكَّةَ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وهذا قول أقيس عندي
(١). أي سكن ولم يتحرك.(٢). لابتا المدينة هما حرتان يكتنفانها.(٣). الخلي: النبات الرقيق ما دام رطبا، ويختلى: يقطع.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute