الثامنة- قوله تعالى: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ) وَصِيَّةٌ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ، كَأَنَّ الْمَأْمُورَ الْإِنْسَانُ. وَ" أَنابَ" مَعْنَاهُ مَالَ وَرَجَعَ إِلَى الشَّيْءِ، وَهَذِهِ سَبِيلُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ. وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّ الْمَأْمُورَ سَعْدٌ، وَالَّذِي أَنَابَ أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا أَسْلَمَ أَتَاهُ سَعْدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَسَعِيدٌ وَالزُّبَيْرٌ فَقَالُوا: آمَنْتَ! قال نعم، فنزلت فيه:" أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ «١» رَبِّهِ" [الزمر: ٩] فَلَمَّا سَمِعَهَا السِّتَّةُ آمَنُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ:" وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى " «٢» - إِلَى قَوْلِهِ-" أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ" [الزمر: ١٨ - ١٧]. قيل: الَّذِي أَنَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَمَّا أَسْلَمَ سَعْدٌ أَسْلَمَ مَعَهُ أَخَوَاهُ عَامِرٌ وَعُوَيْمِرٌ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مُشْرِكٌ إِلَّا عُتْبَةَ. ثُمَّ تَوَعَّدَ عَزَّ وَجَلَّ بِبَعْثِ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ لِلْجَزَاءِ والتوقيف على صغير الأعمال وكبيرها.
[[سورة لقمان (٣١): آية ١٦]]
يَا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦)
الْمَعْنَى: وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ. وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ لُقْمَانَ إِنَّمَا قَصَدَ بِهِ إِعْلَامَ ابْنِهِ بِقَدْرِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذِهِ الْغَايَةُ الَّتِي أَمْكَنَهُ أَنْ يُفْهِمَهُ، لِأَنَّ الْخَرْدَلَةَ يُقَالُ: إِنَّ الْحِسَّ لَا يُدْرِكُ لَهَا ثِقَلًا، إِذْ لَا تُرَجِّحُ مِيزَانًا. أَيْ لَوْ كَانَ لِلْإِنْسَانِ رِزْقُ مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ جَاءَ اللَّهُ بِهَا حَتَّى يَسُوقَهَا إِلَى مَنْ هِيَ رِزْقُهُ، أَيْ لَا تَهْتَمُّ لِلرِّزْقِ حَتَّى تَشْتَغِلَ بِهِ عَنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَعَنِ اتِّبَاعِ سَبِيلِ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ. قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: (لَا تُكْثِرْ هَمَّكَ مَا يُقَدَّرُ يَكُونُ وَمَا تُرْزَقُ يَأْتِيكَ). وَقَدْ نَطَقَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِأَنَّ اللَّهَ تعالى قد أحاط بكل شي علما، وأحصى كل شي عَدَدًا، سُبْحَانَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَرُوِيَ أَنَّ ابن لقمان سأل أباه
(١). راجع ج ١٥ ص ٢٣٧ فما بعد.(٢). راجع ج ١٥ ص ٢٤٣ فما بعد.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute