"في مرضه الذي مات فيه"، وفي حديث جندب -رضي الله عنه-: "سمعت النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يقول قبل أن يموت بخمس ليال"، وفي حديث أُبَيّ بن كعب:"إن أحدث عهدي بنبيّكم قبل وفاته بثلاث. . ." فذكر الحديث في خطبة أبي بكر، وهو طَرَف من هذا، وكأن أبا بكر -رضي الله عنه- فَهِم الرمز الذي أشار به النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من قرينة ذِكره ذلك في مرض موته، فاستشعر منه أنه أراد نفسه، فلذلك بكى (١).
(فَقَالَ) -صلى الله عليه وسلم- ("عَبْدٌ) خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذا عبدٌ، أو مبتدأ حُذف خبره؛ أي: هنا عبد، وجملة (خَيَّرَهُ اللهُ) صفة لـ "عبدٌ"، وهو من التخيير، يقال: خيّرته بين الشيئين: فوّضت إليه الاختيار، فاختار أحدهما، وتخيّره، قاله الفيّوميّ (٢). (بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ) بضمّ أوله، من الإيتاء؛ كالإعطاء وزنًا ومعنًى، (زَهْرَةَ الدُّنْيَا) بفتح الزاي، مثل تَمْرة: متاعها، وزينتها (٣)، وقال النوويّ -رَحِمَهُ اللهُ-: المراد بزَهْرة الدنيا: نعيمها، وأعراضها، وحدودها، وشبّهها بزهرة الرَّوْض.
(وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ)؛ أي: عند الله تعالى، وهو نعيم الجنّة، وفي رواية مالك: "بين أن يؤتيه من زَهْرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده"، (فَاخْتَارَ) ذلك العبد الْمُخَيَّر (مَا عِنْدَهُ") "ما" اسم موصول مفعول "اختار"، ولفظ البخاريّ:"إن الله خيّر عبدًا بين الدنيا، وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله".
(فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، وَبَكَى) قال النوويّ -رضي الله عنه-: هكذا هو في جميع النسخ: "فبَكَى أبو بكر وبكى"؛ معناه: بكى كثيرًا، ثم بكى.
زاد في رواية البخاريّ:"فَعَجِبْنا لبكائه"، وفي رواية:"فقلت في نفسي"، وفي رواية:"فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يُخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عبد، وهو يقول: فديناك"، ويُجمع بأن أبا سعيد حَدَّث نفسه بذلك، فوافق تحديث غيره بذلك، فنَقَلَ جميع ذلك (٤).
(فَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا، وَأُمَّهَاتِنَا) قال النوويّ: فيه دليل لجواز التفدية، وقد سبق بيانه مرّات، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- عَلِم أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- هو العبد المخيَّر، فبكى