وقال الفراء وغيره: قوله تعالى: {مَنْ أَحْبَبْتَ}[القصص: ٥٦] يكون على وجهين:
[أحدهما]: معناه من أحببته لقرابته.
[والثاني]: من أحببت أن يَهتدِيَ، قال ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، وغيرهم:{وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[القصص: ٥٦] أي بمن قُدِّرَ له الهدى. انتهى (١).
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في "تفسيره": يقول الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: إنك يا محمد {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}[القصص: ٥٦] أي ليس إليك ذلك، إنما عليك البلاغ، والله يهدي من يشاء، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، كما قال تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}[البقرة: ٢٧٢] وقال: {وَمَا أَكْثَر النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣)} [يوسف: ١٠٣]، وهذه الآية أخصّ من هذا كلّه، فإنه قال: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦)} [القصص: ٥٦]، أي هو أعلم بمن يستحقّ الهداية ممن يستحقّ الغَوَايةَ. انتهى (٢).
وقال النسفيّ رحمه الله تعالى: في "تفسيره": {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}[القصص: ٥٦] لا تقدر أن تُدخل في الإسلام كلّ من أحببتَ أن يدخل فيه من قومك وغيرهم {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}[البقرة: ٢٧٢] يخلق فعل الاهتداء فيمن يشاء {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[الأنعام: ١١٧] بمن يختار الهداية، ويَقبلها، ويتّعظ بالدلائل والآيات. قال الزجّاج: أجمع المفسّرون (٣) على أنها نزلت في أبي طالب، وذلك أنه قال عند موته: يا معشر بني هاشم صدّقُوا محمدًا تُفلِحُوا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "يا عمّ تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم، وتَدَعُها لنفسك؟ "، قال: فما تُريد يا ابن أخي؟ قال:"أريد أن تقول: لا إله إلا الله، أشهد لك بها عند الله"، قال: يا ابن أخي أنا قد عَلِمتُ أنك صادقٌ، ولكنّي أكره أن يُقال: جَرخَ عند الموت، وإن كانت الصيغة عامّةً، والآية حجة على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: الهدى هو البيان، وقد هدى الناس أجمع، ولكنهم لم يهتدوا بسوء اختيارهم، فدلّ أن وراء البيان ما يُسمّى
(١) "شرح مسلم" ١/ ٢١٥ - ٢١٦. (٢) "تفسير ابن كثير" ص ١٠٠١ نسخة مؤسّسة الرسالة. (٣) تقدّم أن القرطبي قد تعقّب هذا، وقال: الصواب: أجمع جلّ المفسّرين.