وتفسّره هنا جملة قوله:(أَعْلَمُ لأَحَدِكُمْ) خبر مقدّم لقوله: (أَنْ يَقُولَ لِمَا)؛ أي: للشيء الذي (لَا يَعْلَمُ) حقيقته (اللَّهُ أَعْلَمُ) فجملة "أن يقول" في تأويل المصدر مبتدأ مؤخّر، والجملة خبر "إنّ"، واسمها ضمير الشأن، والتقدير: فإن قول أحدكم فيما لا يعلمه: الله أعلم أقرب إلى عِلمه، فإنه عَلِم جهل نفسه، وفوّض العلم إلى العليم الخبير، والله تعالى أعلم.
وفي الرواية الآتية:"فإن من فقه الرجل أن يقول لِمَا لا عِلْم له به: الله أعلم"، وفي رواية للبخاريّ:"فإن من العلم أن يقول لِمَا لا يعلم: لا أعلم"، قال الحافظ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ أي: أن تمييز المعلوم من المجهول نوع من العلم، وهذا مناسب لِمَا اشتهر من أن "لا أدري" نصف العلم، ولأن القول فيما لا يعلم قسم من التكلّف، كما أشار إليه ابن مسعود -رضي الله عنه- في قوله:(فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-) الفاء للتعليل؛ أي: لأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- (قَالَ لِنَبِيِّهِ -صلى الله عليه وسلم-: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}) الضمير في {عَلَيْهِ} راجع إلى تبليغ الوحي، ولم يتقدّم له ذِكر، ولكنه مفهوم من السياق. وقيل: هو عائد إلى ما تقدّم من قوله: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا}[ص: ٨] وقيل: راجع إلى القرآن، وقيل: إلى الدّعاء إلى الله على العموم، فيشمل القرآن، وغيره من الوحي، ومن قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والمعنى: ما أطلب منكم من جُعل تعطونيه عليه. ({وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ})؛ أي: حتى أقول ما لا أعلم إذ أدعوكم إلى غير ما أمرني الله بالدّعوة إليه، والتكلف: التصنع (١).
وقال الإمام ابن جرير الطبريّ -رَحِمَهُ اللهُ-: يقول الله جلّ ذكره لنبيّه محمد -صلى الله عليه وسلم-: قل يا محمد لمشركي قومك، القائلين لك:({أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا}): ما أسألكم على هذا الذكر، وهو القرآن الذي أتيتكم به من عند الله أجرًا؛ يعني: ثوابًا وجزاء، ({وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦)}) يقول: وما أنا ممن يتكلف تخرّصه، وافتراءه، فتقولون:({إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ})[الفرقان: ٤] و ({إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (٧)}). انتهى (٢).
وفي ذكر ابن مسعود -رضي الله عنه- الآية تعريض بالرجل القائل: يجيء دخان إلخ بأنه من المتكلّفين، ثم بيّن -رضي الله عنه- قصّة الدخان، فقال:(إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا رَأَى مِنَ النَّاسِ)؛ أي: من مشركي مكة، فاللام للعهد الذهنيّ. (إِدْبَارًا)