وكيف تقاس على مثل هذا الظنّ الأحكام الصريحة الجازمة التي صدرت منه -صلى الله عليه وسلم- كفتوى، أو قضاء؟ فإنها ليست من ظنونه التي ظنها في الأمور المباحة، وإنما هي أحكام بُعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتبليغها، وأُمرت الأمة باتباعها، قال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الآية [الحشر: ٧].
قال الشيخ وليّ الله الدهلويّ -رضي الله عنه- في كتابه "حجة الله البالغة": اعلم أن ما رُوي عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ودُوّن في كتب الحديث على قسمين:
أحدهما: ما سبيله سبيل تبليغ الرسالة، وفيه قوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الآية [الحشر: ٧]، منه علوم المعاد، وعجائب الملكوت، وهذا كلّه مستند إلى الوحي، ومنها شرائع، وضَبْط للعبادات والارتفاقات بوجوه الضبط المذكورة فيما سبق، وهذه بعضها مستندة إلى الوحي، وبعضها مستندة الاجتهاد، واجتهاده -صلى الله عليه وسلم- بمنزلة الوحي؛ لأن الله تعالى عصمه من أن يتقرّر رأيه على الخطأ.
وثانيهما: ما ليس من باب تبليغ الرسالة، وفيه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء فخذوا به، وأمرتكم بشيء من رأي، فإنما أنا بشر"، وقوله -صلى الله عليه وسلم- في قصّة تأبير النخل:"فإني إنما ظننت ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظنّ، ولكن إذا حدّثتكم عن الله شيئًا، فخذوا به، فإني لن أكذب على الله"، فمنه الطبّ، ومنه باب قوله -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بالأدهم الأقرح"، ومستنده التجربة، ومنه ما فعله النبيّ -صلى الله عليه وسلم- على سبيل العادة دون العبادة، وبحسب الاتّفاق دون القصد، ومنه ما ذكره كما كان يذكّر قومه؛ كحديث أم زرع، وحديث خرافة. انتهى (١).
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ومنه ما فعله النبيّ -صلى الله عليه وسلم- على سبيل العادة. . . إلخ" فيه نظر لا يخفى، فإن الحقّ أن ما فعله -صلى الله عليه وسلم- على سبيل العادة، أو لم يقصده، فكله من سُنَّته التي أمرنا الله تعالى باتّباعها، وقد أشبعت البحث في هذا في "التحفة المرضيّة"(٢)، في الأصول، فلتراجع ما هناك، وبالله تعالى التوفيق.